«هي الناجية الوحيدة»، والقصد طفلة سورية لا تتجاوز العشرة أعوام تلملم نفسها فوق رمال الشاطئ اليوناني، تجهش بالبكاء وتلحّ في السؤال عن مصير أمها وأخوتها، كأنها تستجدي الجميع للبحث عنهم! ولا تحتاج الى كبير عناء كي تكتشف من الرؤوس المطرقة والواجمة، أن من تسأل عنهم باتوا كغيرهم في عداد المفقودين أو طعاماً لحيتان البحر أو جثثاً هامدة على الشاطئ، ربما كحالة الطفل الوديع، آلان الكردي، الذي لفظه البحر ووجهه منكب على الرمال كأنه يرفض وداع عالم جاحد، تركه فريسة لوحوش العنف والأمواج الهائجة، ولن ينفع هنا لشحن الروح الإنسانية تسليط الضوء على محاولة أحدهم إحاطة كتفي تلك الطفلة بغطاء يقيها البرد!.
«غالبيتهم من السوريين»، هي عبارة بسيطة وموجعة تحدّد جنسية ضحايا شاحنة التهريب التي اكتُشفت على حدود النمسا مع هنغاريا، ولا يضير لإثارة المزيد من الألم والحزن، الإشارة الى وجود أطفال ونساء بينهم، أخفى التعفّن والتفسّخ ملامح وجوههم! فما ذنب هؤلاء؟! وأي مصير ينتظر سواهم؟! وهل الحل في اجتماعات يخصّصها قادة الأمم لتخفيف معاناة الهاربين من أتون العنف، أم التهليل للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل نتيجة تعاطفها اللافت مع السوريين وما اتخذته من إجراءات تسهّل لجوءهم، أم الامتنان لتجمعات أهلية شهدتها برلين وفيينا وستوكهولم تدين هذا الاستهتار الأوروبي وترحّب بقدوم اللاجئين السوريين الى أراضيها؟!.
ومع نجاح حملة التبرّع لرجل سوري يبيع الأقلام وسط بيروت بينما تنام طفلته الصغيرة على كتفه، والإشادة بقرار تحويل الكم الأكبر من أموال تلك التبرعات لمساعدة لاجئين آخرين، ثمة مشهد لأم سورية تفيض عيونها بالدموع وهي تحضن طفلة ولدتها للتوّ في أحد أنفاق مترو بودابست، ولا يعرف، أهي دموع الحزن المرير على ما حلّ بها، أم تشي بفرح دفين لاطمئنانها الى أن ثمة حياة آمنة تنتظرهما؟! في حين تغدو الانتهاكات الجسيمة وظواهر الإذلال التي يتعرّض لها عموم اللاجئين السوريين أشبه بخبزهم اليومي، إن بإجبارهم على العيش في معازل ومخيمات لا تليق بالبشر، وإن بإخضاع حياتهم لمعونة دولية تتقلّص تدريجياً وتعجز عن تلبية أبسط احتياجاتهم، وإن باستغلال أطفالهم جسدياً، ليصبح وجعاً مألوفاً انتشار زواج القاصرات في مخيمات اللجوء، أو ازدياد عدد العاملات والخادمات السوريات اللواتي يغتصبن أو يجبرن على ممارسة الدعارة، أو انتشار الصبية والفتيات الصغيرات في الشوارع لبيع مواد استهلاكية بسيطة كي يعيلوا أسرهم!.
ويبقى الوجع الأخطر ما تورده منظمة اليونيسيف عن فقدان مئات الآلاف من أطفال سورية مدارسهم وفرص تعليمهم، وعن أعداد ما فتئت تزداد من الضحايا ذوي الكفاءات العلمية وحملة الشهادات الجامعية، بينما يشار بالبنان إلى سوريين متميزين صنعوا فارقاً في بلاد الغربة، منهم من أتقن بسرعة قياسية لغة الدولة المضيفة، ومنهم من حقق أعلى درجات التفوق في تحصيله الجامعي، ومنهم من يكرم لإبداعاته الفريدة، كالباحثة دينا القتابي التي كرمها أخيراً الرئيس الأميركي، ومنهم ذاك السوري النبيل الذي خسر في بلاده كل ممتلكاته ومدخراته وسارع في عاصمة غربية إلى مركز شرطة ليسلّم محفظة تمتلئ بالنقود وجدها على قارعة الطريق!.
يبدو أن الأوجاع التي يخلّفها تصاعد العنف اليومي ووتيرة القصف والبراميل المتفجرة، لم تعد بذات قيمة وقد خفّف تكرارها وطأتها، بخاصة إن لم يكن عدد الضحايا «محرزاً» أو حين يخترق المشهد أحد الناجين من تحت الأنقاض! أفلا يستحق الصدارة إنقاذ شاب بكامل عافيته من تحت الركام ليبدأ حياة جديدة، أو العثور على فتاة صغيرة بين الخراب وإن كلّفها بقاؤها على قيد الحياة بتر إحدى ساقيها؟!
بين الاستعراض والاستفزاز، يتقصّد «داعش» تعميق أوجاع السوريين، يفجر في تدمر أهم معبدين وثنيين ويصلب مسؤول الآثار هناك، ويتفنّن في إبداع أشنع الأساليب لتصفية المخالفين، فبعد أن رأينا الذبح الجماعي على الطريقة الهوليوودية ثم الصلب بعد قطع الرأس، فالإعدام غرقاً في قاع النهر، ثم حرق الناس في أقفاص، يصدمنا أخيراً مشهد الشي حتى التفحّم!
ومع تصاعد أوجاع الناس من رشقات قذائف الهاون العشوائية على المدنيين في العاصمة دمشق، وما تسبّبه من أذى وأعداد تزداد يومياً من الضحايا والجرحى والمشوّهين، تشتدّ معاناتهم من انقطاع طويل للتيار الكهربائي والغلاء الفاحش وتراجع الخدمات العامة، وأيضاً من ازدياد حالات السرقة والابتزاز بقوة السلاح، والضغط والإذلال اللذين تسبّبهما كثرة الحواجز الأمنية، وتشتدّ أيضاً أوجاع المعاناة المركبة التي يكابدها أبناء المناطق المحاصرة منذ سنوات، مرة من الجوع وغياب الحدّ الأدنى من الحاجات الإنسانية، الغذائية والصحية، ومرة ثانية من القصف اليومي والعشوائي وما يخلّفه من ضحايا ودمار، ومرة ثالثة من استبداد إسلاموي لا يقف عند إرهاب البشر وإرغامهم على اتباع نمطه في الحياة، وإنما يصل إلى اعتقال بعض المعارضين واغتيال آخرين والتنكيل بالناشطين المدنيين والإعلاميين!
أين وصلت أحوالنا وأي غد ينتظرنا، وإلى أي حدّ موجع ومدمّر يمكن أن تصل بنا الأمور قبل أن تطوى هذه المحنة؟! هو سؤال يتكرر بقلق وحرقة على لسان غالبية السوريين بغض النظر عن اصطفافاتهم ومواقفهم، وكأن ثمة إحساساً عاماً بدأ يتملّكهم جميعاً بأن ما ينتظرهم هو المزيد من الألم والخراب والضياع.
والحال، ليس من بلد نضجت فيه الدوافع الأخلاقية والإنسانية لوقف العنف المتمادي ولإنقاذ اجتماعه الوطني كما سورية، وليس من لحظة تلحّ لمساندة هذا الشعب المنكوب وتخفيف أوجاعه أكثر من اللحظة الراهنة، ما يتطلّب ليس إجراءات إسعافية على أهميتها وإلحاحها إنسانياً، بل دوراً أممياً يجترح حلاً سياسياً يوقف مشهد العنف المأسوي ويضع خطة طريق تحفظ للسوريين وحدة بلادهم وتنتصر لقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان.
* كاتب سوري |