يوم السبت الماضي نزل الآلاف إلى الساحات في بيروت. بعضهم كان من غير شكّ يحمل تأويله الحزبيّ أو الطائفيّ للاحتجاج المطلبيّ، ويريد أن يحرف هذا الاحتجاج بما يلائم تأويله. بعضهم الآخر كان من الفاسدين الخاسرين في لعبة الفساد والتنفيعات. لكنّ المؤكّد أنّ الأكثريّة الساحقة جاءت على الضدّ من أحزاب طوائفها، ومن وسخ زعاماتها، مدفوعةً بهموم مطلبيّة ملحّة، ورافعة الأعلام اللبنانيّة دون سواها. هؤلاء الشبّان والصبايا حضروا في الساحات بعدما استخدموا بكثافة وسائط التواصل الاجتماعيّ. وهم، إلى ذلك، افتقروا إلى حزب محكم التنظيم يقود ويوجّه خطاهم. وفي هذا فإنّهم شابهوا بدايات الثورات العربيّة التي تخفّفت من الشروط القديمة للثورات. لكنّ عنصراً أهمّ كان حاضراً استلهمه التحرّك الشبابيّ اللبنانيّ من الثورات العربيّة، لا سيّما منها السوريّة: إنّه التجرّؤ على القيادات المسمّاة بالإسم والمصوّرة بالصورة، بحيث أنّ استثناء إحدى الصور استلزم التهديدات المباشرة من أنصار صاحب الصورة. وذاك ما كان ليحدث لو لم يرَ اللبنانيّون معمّر القذّافي يحاول الفرار كالفأر، وحسني مبارك خلف القضبان، والأحذية تمضغ صورة حافظ الأسد وتماثيله. وحين يُذكر حافظ الأسد تُستدعى كوابيس الرعب التي لم تثقل على السوريّين فحسب، بل سكنت قلوب اللبنانيّين أيضاً، بمن فيهم آباء الشبّان الذين تظاهروا في بيروت. بيد أنّ الإلهام والاستلهام ليسا الأثر الوحيد للثورات، وخصوصاً الثورة السوريّة، على اللبنانيّين وتحرّك شبّانهم. فهذا الأخير يحصل فيما الثورات تنهزم أو تتحوّل إلى حروب أهليّة، أو أهليّة – إقليميّة. وختام عربيّ كهذا يزيد في توكيد الشجاعة التي تحلّى بها الشبّان اللبنانيّون الذين يستطيع السينيكيّ أن يقول: ذاهبون إلى الحجّ والناس راجعة منه. إلاّ أنّ الختام العربيّ ذاته يحمل درساً آخر للبنانيّين: فالثورة السوريّة إنّما تحوّلت إلى حرب أهليّة لأنّ نظام الأسد، وبالاستناد إلى ضعف النسيج الوطنيّ السوريّ، أقام نوعاً من المماهاة بين جماعة أهليّة – طائفيّة وبين السلطة، بحيث غدا التغيير السياسيّ تهديداً مجتمعيّاً. وفي لبنان، يفعل نظام الحصص الطائفيّة، براحة وحرّيّة أكبر بالطبع، الشيء نفسه، بحيث يغدو الموقف الجذريّ من التغيير موقفاً جذريّاً من شكل الاجتماع الوطنيّ القائم.
فإذا لم يُقيّض للتحرّك الشبابيّ الأخير أن يخاطب مسألة التصدّع المجتمعيّ، بما في ذلك ثنائيّة المدينة – الريف الغائبة عنه، وإذا لم تتجسّد هذه المخاطبة في تماسك فكريّ وتنظيميّ بالغ المرونة، وفي نفس طويل، بات كلّ انتقال من المطلبيّ إلى السياسيّ انتقالاً من التغيير إلى الاحتراب. وهي مسألة تستحقّ أكثر من عودة ومن مقارنة.
|