الأربعاء ٢٧ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آب ٣٠, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
تظاهرات بيروت: لندع الشباب يجربون ويغيرون - حسام عيتاني
لا سابق لما شهده لبنان الأسبوع الماضي في تاريخه الحديث. لقد فُتح الشارع على مصراعيه ونزل إليه كل صاحب اعتراض واحتجاج بعدما كشفت أزمة جمع النفايات ومعالجتها الفشل الشامل للدولة اللبنانية في إدارة الأمور الحياتية اليومية والقضايا السياسية سواء بسواء.

الشعارات التي رُفعت في ساحة رياض الصلح تتراوح بين تسليم السلطة إلى حكومة عسكرية والمطالبة بتشريع الحشيشة، وما بين المطلبين وما يتجاوزهما. إسقاط النظام، محاسبة المسؤولين عن العنف المفرط الذي أصاب المتظاهرين، مطالب شرعية تماماً في تحرك يشمل المتضررين من النظام اللبناني والمستفيدين منه جنباً إلى جنب.

أتاح التحرك استعراض كل الممارسة السياسية اللبنانية السائدة على الأقل في الأعوام العشرة الماضية، من محاولة تحطيمه بالقوة من قبل القوى الأمنية إلى محاولة امتطائه من جانب الأحزاب الطائفية الحاكمة في صراعاتها مع خصومها التقليديين. لا مفاجأة في نزول «مندسين» ولا عجب في عودة الروح إلى شخصيات لم تنبس ببنت شفة منذ بدأت الثورات في البلاد العربية.

يريد هؤلاء حصة من ضوء كاميرات التلفزيونات ومحاولة قطف ما زرعه الناشطون المدنيون الذين انطلقوا من نقطة واضحة ومحددة هي الاعتراض على عدم علاج السلطة لمشكلة النفايات والفساد الفاضح في إدارة مناقصات تلزيم العقود لشركات ترغب في وراثة الشركة الأبرز في هذا المجال، «سوكلين»، التي أبدى أصحابها رغبة في اعتزال فن جمع النفايات.

كرر القدامى خطابهم القديم المعادي للفساد، مع تركيز على جهة سياسية معينة. وكررت الأحزاب الطائفية أساليبها المعروفة في محاولة الاستيلاء على التحرك من داخله. وإلى «القدامة» ذاتها ينتسب رد فعل رجال الامن الذين وجهوا إلى المتظاهرين ما يعتقدون أنه شتائم من نوع «اللوطيين» (المثليين) ومتعاطي الكبتاغون (الحبوب المخدرة)، إضافة إلى القاموس التقليدي الذي يتناول الأمهات والأخوات والنساء عموماً. بيد أن «القدامة» هذه تصطدم رأسياً بـ «جِدّة» غير مألوفة. ثمة من يقول إن الطرق السابقة في إدارة لبنان من خلال تقاسم غنائم المال العام واستتباع المواطنين للزعامات الطائفية عبر إعادة توزيع هذا المال بواسطة اقنية الولاء الطائفي، لم تعد تكفي. الشح الكبير في الواردات ينعكس ضآلة في التوزيع فيتفاقم التململ في القاعدة من الحاجة ومن إصرار السياسيين على مطالب غير واقعية وسط مظاهر البذخ الخرافي والتفاخر بثراء فاجر. «الجِدّة» أن المتضررين الواقعين على هوامش عملية إعادة توزيع الريع الطائفي المذكورة، يمتدون على شرائح شبابية تشمل الافضل تعليماً وإصراراً على تغيير أسلوب الحكم واستبدالها بأخرى أحدث، وتخاطب العصر وتنتمي إليه، والاكثر فقراً وتهميشاً وشعوراً، بالتالي، بالتخلي العام عنها من كل «المؤسسة» السياسية – الطائفية اللبنانية.

الكلام عن حصر المطالب بنقطة معالجة النفايات وعدم التطرق إلى فكرة إسقاط النظام القابلة للتحول تحولاً سريعاً إلى أداة إجهاض للتحرك، تخطاها الواقع. وأظهرت عملية فض عروض مناقصات جمع النفايات يوم الإثنين في 24 آب (اغسطس) أن الجماعة السياسية الحاكمة لم تتأثر بأي تحرك وأنها على تمسكها بأساليبها في استغباء اللبنانيين، ما أدى إلى تصعيد في الشارع ثم إلغاء مجلس الوزراء في اليوم التالي لنتائج المناقصة.

هو إذاً الفشل الكامل في عمل النظام (وليس الدولة فقط) الذي، على رغم قوته وقدرته على إغراق التحرك في الوحول الطائفية، لا يملك أي بديل أو أي تصور لإخراج البلاد من عثراتها المتعاقبة. يدفع هذا الإفلاس بمنظمي التحرك إلى الإصرار عليه وعلى المضي فيه على رغم المشكلات والانشقاقات التي بدأت تظهر في صفوفهم والتي ربما كانت طبيعية بسبب الضغط الرهيب الذي يتعرضون له ولافتقارهم إلى تماسك نادر الوجود خارج التنظيمات الحديدية.

لكن الإصرار على المضي في التحرك لا يعني أنه وجد «خطابه» ولا يعني أنه قادر على تخطي أفخاخ وألغام القوى الطائفية. بل الارجح أنه يعني رغبة في إكمال التجربة والقبض على اللحظة السياسية الحالية ومحاولة تطويعها نحو حل يساهم في إخراج لبنان من المأزق الذي يقيم فيه منذ عشرة أعوام.

في ظاهر الأمور (أو المنطق الشكلي إذا جاز التعبير) ان السير في اتجاه إسقاط مؤسسات الدولة يفتح الطريق أمام الجهة الأقوى والاكثر تنظيماً وتسليحاً (وهي ليست سوى «حزب الله» في حالتنا هنا) للنزول إلى الشارع ومحاولة فرض نفسه كحاكم او على الاقل كسلطة أمر واقع. بيد أن للظاهر هذا باطناً لا يقل أهمية، هو أن الحزب المرتبك من جراء تورطه في الحرب السورية سيغامر بذلك بما تبقى من تماسك الكيان اللبناني ويدفع خصومه إلى خطوات مشابهة في مناطق نفوذهم.

بهذا نكون وصلنا إلى أن الساحة مفتوحة للتجريب بمعناه الواسع. التجريب بأخطاره وفرصه، بانعدام القيادة والبرنامج ومحاذيره، وبالدينامية والمرونة اللذين ينطوي عليهما الغياب المذكور. التجريب المحكوم بحلم التغيير ولو الجزئي والتدريجي وبكابوس الارتكاس إلى حرب أهلية ضروس.

خبرات الأجيال السابقة من «المناضلين» الذين انتهت تجاربهم إلى كوارث أو ما يشبهها غير ذات قيمة كبيرة أمام واقع بهذا التعقيد والتشتت. قد لا يرضي هذا الكلام اليساريين الذين يعتقدون بامتلاك ناصية المنهج التاريخي الصائب. ولن يوافق عليه أرباب الطوائف المتربعون على مقاعد السلطة منذ أن ظهرت بذرة الكيان اللبناني في عهد المتصرفية او ربما قبلها. لكن لا مناص من الاعتراف بأن عملية تقاسم الدولة باعتبارها غنيمة وبرعاية القوى الخارجية باتت شديدة الصعوبة.

الشبان ماضون إذاً في تحركهم وفي نحت تجربتهم الخاصة. حساب النجاحات والخيبات مسألة مختلفة.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة