... وسقط ضابط سابق آخر في الجيش العراقي في غارة للتحالف الدولي على موقع لـ «داعش» في الموصل. إنه العقيد فاضل الحياري، الملقب بأبو مسلم التركماني، ووصف أيضاً بأنه الشخص الثاني في التنظيم الإرهابي. إذا أردنا استخدام تقنية الـ «هاش تاغ» تلك التي يُستعان بها اليوم في صحافة الديجيتل لمساعدة «غوغل» في البحث عن الرجل، فعلينا أن نكتب الجملة المفتاح على هذا النحو: #عقيد_داعش_عراق_ بوكة. لقد صارت هذه العبارات من المفاتيح الأساسية في البحث عن تنظيم الدولة. وإذا كان تعبيرا «داعش» و «العراق» بديهيين، فإن تعبير «عقيد» يجب التوقف عنده ملياً، كما يجب التوقف عند تعبير «بوكة»، وهو اسم السجن الذي التقى فيه ضباط الجيش العراقي السابق، وهناك انعقدت رابطة بينهم صارت لاحقاً «داعش».
أما حكاية «العقيد»، فالملاحظة تأخذنا إلى حقيقة أن معظم قادة التنظيم عقداء سابقون، وهي رتبة لم يتجاوزها أحد ممن أدرجوا في هرمية قيادة التنظيم. عقيد في المخابرات العراقية وعقيد في الحرس الجمهوري وعقيد في القوات الخاصة. كانوا عقداء في لحظة انهيار الجيش العراقي وإعلان حله في 2003. وهذا ليس صدفة على الإطلاق. فعمر العقيد في الجيش آنذاك يتراوح بين 40 و50 سنة، وكان هؤلاء في حينه القيادات الوسطية التي تتولى بث توجيهات صدام حسين وتحولاته في العقد الأخير من حكمه إلى قواعد أجهزة السلطة وإلى محيطها الاجتماعي والمذهبي والعشائري. وفي ذلك العقد عصف بعقل صدام المحاصر والمنهك، الكثير من التحولات، وتُوجت بما أطلق عليه «الحملة الإيمانية»، أي ضخ جرعة من «الاسلاموية» في «الروح البعثية» وفي «عروبة» عشائر البادية.
إذاً، قادة «داعش» من عقداء الجيش العراقي المنحل، ليسوا بعثيين بالكامل. البعث لحس بعضاً من عقولهم، لكنه لم يلتهمها كلها، ذاك أنه من المفترض أن يكون هؤلاء في ثلاثيناتهم عندما باشر صدام حسين توجيه البعث إلى الإسلام في التسعينات. ثمة شيء لم يتم الاقتراب منه حتى الآن في تفسير تنظيم «الدولة»، وهو «عروبتها»، وهذه الأخيرة ليست بناء ذهنياً وفكرياً، انما خليط مشاعر وأمزجة وأهازيج وقيم، مضافاً إليها وعي مباشر وغير مركّب بالتاريخ وبالاجتماع. يصاحب هذا كله حس أمني مؤامراتي عال وقدرة هائلة على الذهاب بالعنف إلى أقصاه.
وعروبة عقداء صدام حسين التي هذه مادتها، ليست فريدة في تاريخ العروبة، ولطالما لازمها العنف أينما حلت. انقلابات سورية في الخمسينات، ووصول البعث إلى السلطة في العراق عبر سلسلة من عمليات السحل نموذجان عنها، ولا تخلو العروبة الناصرية في تجربتها المصرية من جرعات عنف، وإن كانت أقل عنفاً ومشهدية.
لكن مسرح «العروبة» الذي يتحرك عليه «داعش» أكثر نموذجية في تظهير علاقة التنظيم الإرهابي بقيم العروبة. الأمر بدأ بوجدان بعثي مستقر على بنية عصبوية عشائرية ومذهبية، تم شحنه بعد هزيمة صدام في الكويت بجرعة من الإسلاموية، ثم ألحقت به هزائم متتالية دفعت بميول المؤامرة الأصلية فيه إلى منتهاها. هذا هو معنى أن تكون عقيداً سابقاً في الجيش العراقي. أو هذه هي نواة «داعش». ولم تعد محاولات إشاحة النظر عن ذلك مفيدة. التعرض لـ «العروبة» عبر رد «داعش» إلى شيء فيها يستفز على الأرجح كثيرين ممن لم يهز الزمن عروبتهم. «داعش» سلفية جهادية، و «داعش» مؤامرة، و «داعش» لحظة انهيار كبرى. كل هذا قد يكون صحيحاً، لكن «داعش» نحن أيضاً. قيمنا وخبرتنا وعنفنا وأنماط علاقاتنا. وهو اقترابنا من أنفسنا التي أفسدتها «عروبة» عسكرية عشنا في ظلها عقودنا الأخيرة.
حين نفكر في «داعش» يجب دائماً العودة إلى لحظات التأسيس، وإلى جغرافيا التأسيس وسوسيولوجيا التأسيس. الصحراء المشتركة بين العراق والأردن وسورية. ضباط سابقون في حزب البعث يقودهم في البداية فتوة من صحراء شرقي الأردن، وتضخ لهم الحدود السورية العراقية آلافاً من المتطوعين. البعث ليس وحيداً في هذه الصحراء. قيم البادية مستمرة في تغذية النفوس بتصوراتها، في وقت تنهار فيه دفاعات المدن المتباعدة في صحراء هائلة.
هنا تماماً تقع لحظة الافتراق بين «السلفية الجهادية» وبين تنظيم «الدولة». الافتراق بين أبو محمد المقدسي القادم من «جهادية مسجدية» وتلميذه أبو مصعب الزرقاوي القادم من «جهادية سجنية». السجن هنا بصفته عنصراً «ثقافياً» غير غريب عن خبرات اجتماعية تنعدم فيها الحدود بين السجان والسجين. فالزرقاوي تماماً كما البغدادي كانا نزيليه وفيه تشكلت «جهاديتهما» مثلومة بوعي السجان وعنفه. نعم «داعش» مؤامرة. وهنا علينا العودة إلى وقائع التأسيس والمبايعة. فالسرية والغموض اللذان لابسا خلافة أبو بكر البغدادي يشعرانك أن «مبايعته» حدث بعثي. فنحن حيال هذا الحدث أمام انقلاب يشبه انقلابات سورية والعراق في عقدي تأسيس دولة البعث فيهما. ضباط من رتب متوسطة تولوا تصفية العوائق أمام قدوم الخليفة، وتدبير المؤامرات والوشاية بالأسلاف، إلى أن استقرت لهم «الخلافة». تقول الرواية عن الضابط العراقي السابق حجي بكر الذي قتل بالقرب من مدينة حلب السورية أن الرجل كان «قومياً» ولم يكن إسلامياً، وأنه بنى «داعش» في ريف حلب معتمداً على خبرات حصّلها في الأجهزة الأمنية العراقية. ولم يُعثر في منزله على أثر لممارسته الصلاة. الأمر نفسه تقريباً بالنسبة لأبو مسلم التركماني. عقيدة عسكرية مطعمة بأقدار متساوية من روح البعث وعنف البادية وإسلام «الحملة الايمانية» الصدامي.
واحتاج مثلث الانهيارات هذا إلى شحنة «جهادية» لكي يستقيم سلطة، فأسعفته السلفية بـ «فقه التوحش»، أي الانقضاض على المجتمع في لحظة انهياره وتوحشه. فتتشكل السلطة حينها من عنصري «الانهيار» و «التوحش». وكم يردنا ذلك، وإن على نحو أقل وضوحاً، إلى لحظات أعاد البعث فيها انقضاضه على المجتمعات المحلية.
وأن يحدث ذلك من تلقائه، أي أن تنهار مدينة و «يتوحش» الناس فيها، فهذا ما سبق أن عاينّاه في العراق في 2003 عندما انهار النظام فيه، ولكن أن تتشكل سلطة في لحظة الانهيار ومن مادته، فهنا تكمن العبقرية الشيطانية لضباط البعث. |