كمنت أهمّية حملة "طلعت ريحكتم" بكونها ذات هدف محدّد وواضح:
ربط أزمة النفايات بأداء الطبقة السياسية اللبنانية الفضائحي.
وعبّرت
الحملة المواطنية عن توقٍ لاستعادة السياسة ومُحاسبة المسؤولين في مرحلةٍ من الانحطاط لم يشهد لبنان
السياسي مثيلاً لها منذ الحرب الأهلية.
وكمنت أهمّية الحملة أيضاً في إظهارها
إمكانية تجاوز اصطفافَي 8 و14 آذار في الشارع، كما في الشعارات المطلبية عبر ربط السياسة بقضايا الحياة
اليومية وليس فقط بالقضايا "الاستراتيجية" (على أهمّية الأخيرة).
وسبق للبنان
أن عرف في أواخر تسعينات القرن الماضي مبادرات مواطنية عدّة، مثل "الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية
الانتخابات" و"بلدي بلدتي بلديّتي" والحملات من أجل المخطوفين والمفقودين، وحملات الزواج المدني
والحملات البيئية. وتلاها بين العامين 2000 و2004 ثم بعد العام 2009 حراكٌ مدنيٌ نشِط ارتبط بقضايا
المرأة والعنصرية وإصلاح النظام الانتخابي والأوضاع المعيشية وحقوق المعلّمين
وغيرها.
ما يمكن قوله حول هذه التجارب إنها أظهرت أنه بِقَدر ما يكون التركيز
فيها على موضوع واحد أو على اختصاصٍ محدّد بقدر ما يكون الإنجاز ممكناً. وكلّ ما تعدّدت الإنجازات كلّ
ما صار خرق جدار النظام احتمالاً. ذلك أن النظام اللبناني، المُترنّح والمُتعذّر إصلاحه والواجب يوماً
طيّ صفحته، يملك في فلسفته وفي آليات اقتسام السلطة المعمول بها في ظلّ الانقسامات الأهلية الراهنة ما
يعينُه على الاستمرار.
فهو إذ صار عاجزاً عن حلّ الأزمات لانعدام المرونة في
صِيغه ولتبّدل خصائص النخب السياسية وتوازناتها، ما زال يلبّي في المقابل الحاجات الزبائنية للمنخرطين
في "مؤسساته" ويعتمدهم وسطاء وحيدين بين الدولة والجماعات بما يُبقي مشروعيّاتهم الشعبية قائمة الى هذا
الحدّ أو ذاك.
فإن أُجريت انتخابات وِفق نظم التمثيل الأكثري فازوا، وإذا
عُلّقت الانتخابات (أو علّقوها) صَرّفوا الأعمال ليُحضّروا انتخاباتٍ مقبلة. فَعلَ معظمهم ذلك في ظلّ
هيمنة النظام السوري على لبنان، واستمرّوا بالأمر بعد تغيير اصطفافاتهم عقب أفول الهيمنة
تلك.
بهذا المعنى، ليس شعار "طلعت ريحتكم" وقصر التحرّك مرحليّاً على شأن
النفايات وتلزيماتها و"اقتصادها السياسي" أمراً بسيطاً، ومثله أي تحرّك يخصّ الكهرباء أو يبحث في النظام
الانتخابي أو يخوض في قضايا حقوق المرأة وسوى ذلك من شؤونٍ كلُّ تحقيقٍ لتغييرٍ فيها يؤسّس ببطء وبتراكم
خبراتٍ لتغيير أشمل.
أما القفز نحو شعارات "إسقاط النظام" دفعة واحدة واعتبار
الترفّع عن الشؤون "الصغرى" كفاحاً ثورياً جذريّاً، في وقت يحاذر "الثوريّون الجذريّون" إضافة صورة أمين
عام أكبر حزب لبناني وأشدّ الأحزاب مذهبيةً وأكثرها تأثيراً في الشأن العام وأوحدها حضوراً عسكرياً
وتدخّلاً في صراعات المنطقة منذ العام 2005 الى صوَر باقي الزعماء الذين يريدون إسقاطهم ونظامهم، ففي
هذا القفز ما يدعو الى إضعاف التحرّك وجعله نهباً للاختلافات وعرضةً للاستغلال وللنزعات
الطائفية.
لذلك، ليس من المبالغة القول إن تحقيق حملة "طلعت ريحتكم" لهدفين من
نوع فرض الشفافية على التلزيمات الحكومية للشركات وفرض الفعالية على عمل الشركات ومراقبة أدائها، فعلٌ
ثوري سيكون تأسيسياً لأفعالٍ في مجالات حيوية أخرى قد تكفل مع الوقت والمثابرة إضعاف البنية الزبائنية
وتغيير الكثير من الأمور، بما فيها "النظام" المتهالك والمُفلس... |