هناك فرصة كبيرة للإصلاح بما هو التأثير في الأسواق والسياسات العامة في اتجاه تحسين حياة المواطنين وتطور الاقتصادات الوطنية من غير كلفة سياسية أو مالية، ولا نحتاج لأجل ذلك سوى إعادة توجيه الجدل العام إلى القضايا والأولويات الحقيقية والأساسية، وإلى وعي مجتمعي بهذه الأولويات. لكنه مطلب على بداهته وبساطته، يبدو بعيد المنال بسبب انشغالات المجتمعات بعيداً من هذه الأولويات، وبناء أولويات أخرى يعتقد على رغم عدم علاقتها بحياة المجتمعات والدول وتقدّمها أنه حقّ نزل من السماء، واكتسبت بسبب ذلك صلابة وتماسكاً، وصارت المحرك الأساسي لتطلعات الشعوب وصراعاتها والموت لأجلها، وفي ذلك حدثت متوالية من الفشل والاختلالات. الخطاب الذي هو موجّه الى الفرد ابتداءً، تحوّل إلى نظام اجتماعي وسياسي عام، والنظام الاجتماعي الذي سحق الفرد، فلا الخطاب الاجتماعي بما هو فردي في أصله ومنشئه يصلح للمجتمعات، ولا المجتمعات قادرة بهذا النظام المعكوس وبإلغاء الفردية، على بناء وعي بمصالحها وأولوياتها وتنظيم اجتماعي حول هذه المصالح والأولويات.
وبذلك، فإن المقدمة السابقة تبدو خديعة أو استدراجاً لتوريط القارئ في سؤال الإصلاح، ولكنه سؤال يظهر وفي سرعة أكثر قسوة وصدمة، إلى أي مدى تملك الشعوب والمجتمعات الفرصة لتطوير حياتها العامة والسياسية، وماذا تحتاج لأجل ذلك؟ كيف يمكن توظيف الحماسة والاندفاع اللذين ظهرا في الربيع العربي وفي الصراعات القائمة، الى درجة الاستعداد للموت في تشكّل اجتماعي يؤثر إيجاباً في السياسة والأسواق؟ هل وكيف يمكن أن يتحوّل المتديّنون والمتحمسون عموماً إلى حراك اجتماعي وسياسي يتقدّم بالحماسة نفسها وبلا حاجة الى الموت والقتال، نحو العدالة والكفاءة في إدارة الموارد العامة والفرص والإنفاق والتوزيع؟ وأن يتجادل المتدينون والمحافظون والعلمانيون والليبراليون واليساريون حول دور ديني للدولة في مسائل وخدمات لم يطلبها الله من الدولة، ولكن الدولة العربية الحديثة حملتها وزراً وتنطعاً ليتحوّل من كونه واجباً دينياً إلى قضية اقتصادية واجتماعية؟ وهل يجب أن ندفع من أموال الضرائب مئات وآلاف الملايين في كل بلد لأجل التعليم الديني وإدارة وتنظيم المساجد والدعوة والإفتاء؟ أم أن ذلك واجب المجتمعات ومسؤولياتها؟ هل يمكن أن تقدّم الدولة منهجاً دينياً واحداً للمناهج التعليمية والدعوة والإفتاء، وماذا تفعل في شأن التعددية المذهبية والفقهية وتعدّد القراءات والاجتهادات، أو في ظل وجود مواطنين غير متدينين لا تشغلهم هذه المناهج والتعاليم، ومستعدين للحساب والمساءلة أمام الله على أساس إيمانهم أو عدم إيمانهم هذا، ويعتقدون أنه شأن بينهم وبين الخالق وسيجادلونه عندما يأتونه أفراداً كما أخبرهم؟ هل تتركها جدلاً مجتمعياً بلا تدخل منها أم تتدخل وتفرض واحداً من الاجتهادات والقراءات والمذاهب المتعددة؟ وهل ثمة عدل ممكن في وجود محاكم دينية إلى جانب المحاكم النظامية، تتناقض مع المواطنة والمساواة المفترضة في القوانين والتشريعات المنظّمة لعلاقة المواطنين بالدولة؟ وهل ثمة رأي أو موقف ديني محدّد وحاسم يمنع الاختلاط في المدارس، وإن لم يكن هل يستحق رأي اجتماعي ليس من الدين أن تضاعف تكاليف التعليم وأن يضحى بالتماسك الاجتماعي لأجل حالة اجتماعية هي ليست من الدين؟
يمكن أن يتقدّم الجدل العام في خطوات واسعة أو يتأسس على الأقل لو يدرك المشغولون، سواء كانوا سلطات أو جماعات، بقضايا ومسائل يحسبونها من الدين وهي ليست كذلك، وأنهم يخوضون صراعات أو يبذلون جهوداً وأموالاً وأوقات لم يطلبها الله منهم، ولا أرادهم أن يشتغلوا بها، وحسبهم من السلامة عند الله لقاء ما يفعلونه ألا يأثموا، وفي المقابل فإنهم يمكن أن يفعلوا الكثير لأجل الدين باعتباره المقصد والهدف الأساسي للدين (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط»).
ويمكن وفي جميع الأحوال ومن غير كلفة أو صعوبة، أن نبدأ بزيادة دور البلديات والمجتمعات ومشاركتها في إدارة الخدمات الأساسية وتنظيمها، وبناء شبكات مجتمعية وتحسين فرص تشكيل قيادات اجتماعية تنشئ الإطار المؤسسي والاجتماعي للجدل العام!
* كاتب أردني |