الجمعه ٢٩ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آب ٢٣, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
عن معارضة «النظام» اللبناني من أطرافه وقبل انهياره - سامر فرنجية
جاء تحرّك «المجتمع المدني» الأخير في لبنان، المعترض أو «الثائر» على الحكومة اللبنانية نتيجة أزمة النفايات وبوادر أزمة الكهرباء، ليظهر بعض الحيوية المطلبية غير المتوقعة. بيد أنّ هذه الحيوية لم تنجح في إخفاء أزمة تحرّكات اعتراضية كهذه في لبنان، وهي أزمة عبّرت عنها خطابات التحرّك وشعاراته. وفي هذا السياق، وصف حسام عيتاني خطاب منظّمي التحرّك بـ «تسمّم الخطاب»، ليشير إلى تماهي خطاب هذا المجتمع «غير الطائفي» مع أدبيات خصومه الطائفيين (الحياة، ٢٠١٥/٠٨/١١).

بكلام آخر، تعبّر أزمة الخطاب أو تسمّمه عن أزمة في نظرة التحرّك الى ذاته وأفقه، وهي ناتجة من ضعف في تخيّل شكل سياسة بديلة أو صعوبة في ابتكار تقنيات سياسية مختلفة عما هو معتاد من الأحزاب اللبنانية.

أظهر التحرّك الأخير إشارات عدة تنمّ عن استمراره في النهج المأزوم للمجتمع المدني اللبناني، أكان في اختيار مكان التجمّع أو شعاراته أو مطالبه. فالعودة إلى وسط المدينة وساحاتها العريضة ليست مجرّد محاولة لتكرار التظاهرات «المليونية»، بل قد تكون إشارة الى فرضية «تمثيلية» مزدوجة تحرّك مخيّلة المعترضين: التظاهر كتمثيل لـ «الشعب»، ووسط العاصمة كتمثيل لـ «النظام». واستمرّ هذا المنطق الثنائي في شعارات التحرّك، أكان في شعار «إسقاط النظام» أو في «نحن الشعب»، والتي رسّخت نظرة التحرّك إلى ذاته كطليعة لـ «شعب» وجد أخيراً قضيّته الجامعة في وجه نظام توحَّد في فساد النفايات.

رهن التحرّك ذاته بوجود هذين المكوّنين، الموحدين واحدهما للآخر، ليجد نفسه في ساحة هجرها الشعب والنظام معاً.

استكمل التحرّك الأخير منطق بدايات ما سُمي بـ «المجتمع المدني» في التسعينات، حيث شكّل تجمّع الفاعليات والمنظمات والأحزاب المنضوية تحت شعاره، مشروعاً بديلاً عن الطبقة السياسية. وبدا هذا المشروع البديل في العناوين الجامعة للتحرّكات، أكانت الذاكرة أو الانتخابات أو إصلاح النظام السياسي، حيث فوّض القيمون على المجتمع المدني أنفسهم ممثلين للشعب، أو لعقلانيّته المفقودة. وعندما فشل تفويض كهذا، تحوّلت بعض الرموز إلى مستشارين للطبقة السياسية، باحثة في قربها من مراكز القرار عن فاعلية لم تجدها في الشارع.

التحرّك الأخير عاد ليقع في المعضلة نفسها، أي تمثيل مصالح من لا يريد أن يتمثّل، ليجد أن الساحات لا تزال فارغة على رغم القضية الجامعة.

المشكلة في تصوّر للعمل السياسي كهذا ليس فقط في فاعليته المعدومة، بل، وهذا قد يكون الأهم، في تحوّله إلى مكوّن من منظومة تبرير «النظام»، ينتج نظاماً من خلال «فضحه». فتصريح نبيه برّي، القيّم الأساسي على النظام وعرّابه، بعد عودته من إجازته في إيطاليا، بأنّه «لولا الطائفية لوجب أن تندلع ثورة تكتسحنا جميعاً»، قد يكون أوضح دلالة على فراغ الكلام عن نظام وطائفية وفساد، وعن ثورة هي البديل. وبهذا التصريح، تبنى قائد حركة "أمل" منطق حملة إسقاط النظام الطائفي، التي أظهرت، هي أيضاً، بفشلها أزمة مقاربة للسياسة كهذه. فلربّما كان من الأجدى إما دفع مفهوم النظام إلى أقاصيه المجتمعية والتركيز على مؤسّساته «المدنية» كالقطاع المصرفي والعقاري والمؤسسات الإعلامية، أو حصره برموزه ومسؤوليتهم الشخصية. أما الوقوف على هذا الحدّ من العموميات، فهو المنطق الطائفي في حدّ ذاته.

هذا لا يعني أنّ العمل الاحتجاجي محكوم بإعادة إنتاج هذا الأسلوب «الكلي» في العمل. فإذا استرجعنا تجارب «ناجحة» في الآونة الأخيرة، على الأقل في أسلوبها، كحملة إزالة الطائفة عن الهوية ومن ثمّ التلاعب القانوني الذي سمح بإقرار أول زواج مدني على الأراضي اللبنانية، أو «الحملة الأهلية للحفاظ على دالية الروشة» ونجاحها في ردع تجار المستقبل عن مشاريعهم، أو محاولة تسجيل أول نقابة للعمال الأجانب، نرى أن هناك إمكانية لتصوّر عمل احتجاجي مختلف، لا يقوم على مركزية النظام الذي يقابله شعب مجتمع في الساحات.

فبدل «الحرب النظامية» التي تخاض في الساحات، قامت تلك التجارب على مبدأ «حرب عصابات» قانونية ومؤسساتية وإعلامية ومكانية، تحرّرت من ثقل العمل التنظيمي، لتتلاعب على التناقضات المحلية والدولية لبنية النظام أو الأنظمة. وسمح هذا النوع من العمل بتحرير الفعل من معضلة التمثيل، حيث لم يبحث عن شرعية وفاعلية لأزمة لـ «الشعب» تضمن الفعل في نوع من الثورية الإصلاحية، بل وجدها في تناقضات النظام، الذي بات أقرب إلى حقل من المصالح والتناقضات، يمكن اختراقه والتلاعب به. فبدل البحث العقيم عن رأس لنظام يجب إسقاطه من خلال ثورة تعمّ الساحات، أو إصلاحه من خلال جيوش الخبراء، ينقطع رأس النظام تلقائياً عندما تتحوّل النظرة وتتركّز على أطرافه، لتعود القضايا إلى سياقاتها العديدة والمتناقضة، التي لا تلخّصها مقولات النظام والطائفية والفساد.

وسيبقى السؤال عن إمكانية توحيد تلك المبادرات في مشروع أوسع، كما سيبقى إغراء أخذ مجلس النواب، إما اقتحاماً أم ترشيحاً. غير أنّ دمجاً كهذا ليس إلاّ تكراراً لخداع النظام بأنّ هناك رأساً له، إمّا يُقلع أو يُصلح. فلربّما كان من الأجدى عدم الانجرار إلى تلك الحلول الوحدوية، وتقبّل فكرة أنّ رأس النظام موجود في رأس مصلحيه. بيد أنّ مقاومة هذا الإغراء التكتيكي لن يلغي الأزمة الوجودية الأخرى، أي أزمة الانهيار العام والحرب الأهلية، التي تنفي كل شيء، من النفايات إلى الاعتراضات على سياساتها وصولاً إلى المجتمع المدني. وهي أزمة لا شيء كفيلاً بمنعها.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة