لا يمكن تفسير اللامبالاة والبلادة في التعامل مع الأهوال التي يواجهها السوريون، بالأخص منذ ثلاثة أعوام، والمتمثلة في المقتلة المروعة بالقصف بالبراميل المتفجرة والقنابل الفراغية، مع تدمير العمران وتشريد الملايين، إلا بسيادة أنماط من التفكير والسلوك والوجدان تنمّ عن موات أخلاقي وتحلل قيمي في مجتمعاتنا. وبديهي أن ذلك ناجم عن تعوّد العيش على انتهاك الحريات، والتخفّف من الإحساس بامتهان الكرامات، وتقبّل انتهاك الحق في الحياة.
الفكرة هنا أن الأنظمة الاستبدادية والشمولية هي التي أسهمت في وصولنا إلى هذه الحال من التدهور، نتيجة الحطّ من مكانة الدولة، التي اختزلت إلى مجرد سلطة عاتية. والمفارقة أن هذا النوع من الأنظمة، الذي ادعى حمولات ايديولوجية معينة، لا سيما قومية، نجم عنه تذرّر المجتمعات، بالمعنى السلبي، بما ينطوي عليه ذلك من ضعف علاقات التضامن المجتمعية، والافتقاد لمعنى الهوية الوطنية، وغياب مفهوم المصالح العامة، أو مفهوم العمل العام، والنكوص إلى علاقات التضامن الأولية، العائلية والعشائرية والمذهبية والمناطقية. هكذا بات الوضع في بعض البلدان، والمثال السوري (ومعه العراقي) أكثرها دلالة، أمام حالة تفيد بضياع القضية، أو المصلحة، العامة، أو بالحيرة والتردد إزاءها، مقابل تقدم قضايا هذه الحارة أو القرية أو تلك، هذه العشيرة أو الجماعة أو تلك، هذه الطائفة أو تلك الخ.
لعل ما تقدم يفسر التعاطي مع الواقع السوري (والعراقي) على أنه مشكلة جماعات، ومكونات، مع محاولة إزاحة المشكلة الأساسية المتعلقة بالنظام، ناهيك بأنه نظام استبدادي ووراثي، او اعتبارها مجرد مشكلة عرضية، او محصورة في مطلب لجماعة ما، بل حتى تظهيرها كنوع من مؤامرة، او تدخل خارجي، او جزءاً من مسار الارهاب. والقصد أن العيش لعقود مع تغييب المجتمع، ومصادرة المجال العام، أدى إلى غياب القضية العامة، اي قضية النظام والمجتمع والسياسة وعلاقات الاقتصاد ونمط الثقافة.
والمشكلة أن هذا النوع من التعامل البائس يجد مصادره، أيضاً، في مواقف الدول الكبرى، والهيئات الدولية، في واقع لا تتحرك فيه الدول إلا وفقاً لمصالحها، من دون اعتبار لادعاءاتها الأخلاقية أو القيمية أو الثقافية.
وهنا ثمة ملاحظات عدة، الأولى، أن غياب التضامن الاجتماعي، لم يعد يقتصر على قضايانا الخاصة، المتعلقة بمصالحنا، إذ بات يشمل ما تربينا على انه قضايانا القومية، وصراعنا الوجودي. هذا حدث مع غزو اسرائيل للبنان، وحصار بيروت لمدة ثلاثة أشهر (1982)، وإبان اعتداءاتها المتكررة على هذا البلد في التسعينات، وفي الانتفاضتين الأولى والثانية، ولاسيما في حصار اسرائيل للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، في مقره في رام الله (أواخر 2001 - إلى حين وفاته أواخر 2004)، وفي الحروب الثلاث التي شنتها اسرائيل على غزة (2008 و2012 و2014). كما حصل إبان تعرض العراق للحصار لأكثر من عقد، بعد غزو نظام صدام للكويت (1990). والمعنى أنه لا يمكن أن تطالب مجتمعات لا تنتخي لحريتها وكرامتها ولقمة عيشها بالانتصار لهذه القضية او تلك، لهذا المجتمع او غيره. والثانية، أن أشكال التضامن في المجتمعات ذاتها لم ترق إلى المستوى المطلوب، إذ لم يتحسس السوريون تماماً ما جرى في حماه (مطلع الثمانينات)، من قتل جماعي وتدمير للعمران، ولم يتم إبداء التعاطف مع مطالب الأكراد، ولا مع إخفاء وتعذيب الألوف في السجون من المحسوبين على التيارات اليسارية والإسلامية. هذا حصل في العراق، أيضاً، مع ضعف تحسس مجتمع العراقيين لمآسي الأكرد، وضمنها مأساة حلبجة، مثلاً، او للاضطهاد الذي تعرض له قطاع من الناس لمجرد أنهم محسوبون على «الشيعة»، على رغم اضطرار ملايين العراقيين لترك بلدهم والتشرد، إبان حكم صدام، الامر الذي تكرر معكوساً في ظل نظام المالكي. هذا لا يعني أن المجتمعات العربية لم تتحسس لآلام الفلسطينيين او اللبنانيين او العراقيين، وإنما القول ان ذلك لم يتجاوز نطاق المشاعر، إذ ربما كان التضامن في المجتمعات الغربية مع قضايا مجتمعاتنا اكثر تقدماً، مع فهمنا ان ذلك بسبب قوة المجتمع المدني وقوة تمثل القيم الانسانية عندهم.
الملاحظة الثالثة، أننا اليوم، مع المقتلة الحاصلة في ليبيا واليمن والعراق وسورية، ومع شيوع اللامبالاة، او التشوش، نشهد على حالات تبرؤ من الضحية، او حتى تحميلها مسؤولية الظلم والانتهاك اللذين تتعرض لهما. ويبلغ هذا التشوه الاخلاقي ذروته في نمط تعاطي البعض مع المقتلة المهولة في سورية، بتقبل ما يجري، وفق ادعاءات ايديولوجية متوهمة، بل تبرير قتل النظام يومياً للعشرات، وربما المئات، بواسطة البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية وقذائف الدبابات، كأن ثمة قضايا تبرر قتل مجتمعات بأكملها، أو كأن مقاومة إسرائيل يمكن ان تكون بثمن محو الشعب السوري، علماً ان هذا النظام لم يطلق رصاصة واحدة من أجل الجولان منذ اربعين عاماً.
الملاحظة الرابعة، أن بعض من تثور ثائرتهم، بالمعنى النظري فقط، تجاه اي جريمة منكرة ترتكبها اسرائيل ضد الفلسطينيين، أو غيرهم، لا يبدون اي مشاعر إزاء قتل السوريين، كأن المشكلة لا تكمن في القتل وإنما في هوية القاتل، أو كأن حياة الفرد ليست قيمة عليا، وانما ادعاءات الايديولوجيا والسياسة، في دلالة على انحطاط اخلاقي، وعور في نمط التفكير. ولعله يجدر بنا التذكير هنا ان إسرائيل، الاستعمارية والعنصرية والمصطنعة والوحشية، عندما تقتل وتجرم في حق الفلسطينيين، أو غيرهم، لا تُنزل القتل بشعبها، وانما بمن تعتبرهم أعداءها، فتستخدم القتل وتدمير البيوت والاعتقال والحصار، كوسيلة للاخضاع، اي لتحقيق أهداف سياسية، وضمن ذلك يمكن فهم لجوئها إلى التسوية مع الفلسطينيين، وحتى طرحها مشاريع تسوية مع «حماس» في غزة، على ما نشهد هذه الايام. في المقابل فالنظام السوري يُنزل القتل بشعبه أولاً. وثانياً، هو يقتل ويدمر من أجل القتل والتدمير والترويع فقط، اي من دون فتح اي أفق سياسي، إلا إذا اعتبرنا مقولته المشينة عن «سورية الاسد إلى الأبد»، ذات معنى سياسي.
وتبقى ملاحظة خامسة، ومفادها ان هذا النظام «المقاوم» و «الممانع» يشتغل بالسياسة لكن فقط مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وهذه هي الحقيقة. |