الجمعه ٢٩ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آب ٢٢, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
«تجليات» نظام المحاصصة الطائفية في بغداد - خالد غزال
شهد العراق في الأيام الأخيرة تظاهرات شعبية تحت عنوان الاحتجاج على انقطاع الكهرباء والمياه وانتشار الفساد في السلطة والإدارة. لم تكن هذه التظاهرات الأولى من نوعها، فقد سارت مثيلاتها في مناطق عراقية ذات مكون طائفي له غلبة مذهبية «سنية»، وهو حراك لم تعطه سلطات نوري المالكي أي أهمية يومذاك. الجديد في الحراك الراهن أنه انتشر في مناطق «الإقليم الشيعي» وفق التقسيم الواقعي للعراق، ما جعل المرجعية الدينية الشيعية تستعجل احتواءها عبر دفع رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى إجراءات إدارية وسياسية تحت عنوان الإصلاح ومحاربة الفساد. فهل سقط هذا الحراك فجأة، أم إن جذوره تعود لسنوات منذ إعادة تركيب السلطة قبل عقد من الزمن؟

أدى إسقاط نظام صدام حسين إثر الاحتلال الأميركي عام 2003، إلى تركيب نظام سياسي قائم على المحاصصة الطائفية والمذهبية، ترعاه ثلاث قوى: الاحتلال الأميركي، الجمهورية الإيرانية والمرجعية الدينية الشيعية في العراق. ترافق تركيب السلطة هذه مع تشريع الاحتلال الأميركي وبفتوى من المرجعية الشيعية بعدم التصدي له. أعطى النظام الجديد الغلبة لمكون طائفي شيعي اعتماداً على التركيب الديموغرافي، وجرى إظهار هذه الغلبة بوصفها ثأراً تاريخياً، سواء من مرحلة تأسيس الدولة العراقية، أو الثأر التاريخي قبل أربعة عشر قرناً لعلي بن أبي طالب ضد الأمويين.

في موازين القوة والنفوذ، احتلت إيران الموقع الرئيس في العراق، ونصبت، على رأس السلطة، بالتعاون مع الاحتلال والمرجعية الدينية نموذجاً كاريكاتورياً لصدام حسين هو نوري المالكي الذي مارس سلطة قهر طائفي ضد المكونات الأخرى خصوصاً السنّية منها، ونفخ دوماً في روح الصراع المذهبي التاريخي، ووضع زبانيته في المناصب الحكومية والإدارية وأتاح لهم نهب الموارد وإشاعة الفساد والرشوة في شكل لم يعرفه العراق حتى في عز حكم البعث. ساهم مع الاحتلال الأميركي في تدمير المقومات المادية والوطنية للعراق، من خلال جعل المذهب والطائفة قاعدة الولاء لسلطته، وأتاح للأميركيين نهب الثروات الوطنية بعد أن قاموا بتدمير الجيش. استعاض المالكي عن الجيش الوطني بتكوين ميليشيات بديلة على قاعدة مذهبية، مستعيناً بالحرس الثوري الإيراني، في تدريب القوى وشحنها أيديولوجياً، وهو ما شكل أحد عناصر انهيار الجيش أمام قوى الدولة الإسلامية «داعش». كل ذلك كان يجري تحت أعين المرجعيات الدينية الشيعية ومباركتها سواء أتت من السيد السيستاني أو من مقتدى الصدر وعمار الحكيم.

هذه الممارسة من الحكم المالكي – الإيراني – الأميركي أوصلت العراق إلى ما يشبه «الدولة الفاشلة» على جميع المستويات الوطنية والخدماتية والإدارية، ما جعل الانفجار الشعبي جواباً طبيعياً على السلطة ومرجعياتها. استهولت المرجعيات الدينية هذا «الانفجار»، فما كان عليها سوى احتوائه علناً، بحيث دفعت حيدر العبادي رئيس الوزراء إلى إصدار قرارات سياسية أعطاها عنواناً إصلاحياً. بدأ إعلانه «الإصلاحي» بالقول: «بعد التوكل على الله، واستجابة للمرجعية، واحتراماً لإرادة الشعب...»، أي أن المرجعية كانت وراء الإصلاح، ما يوحي علناً بأن مركز القرار الأساس هو في يد هذه المرجعية، على غرار النظام الإيراني الذي يحتل فيه الولي الفقيه المرجعية الأولى في القرار.

هال المرجعية الدينية نزول الجماهير من الشيعة والسنّة على السواء وسائر المكونات، متجاوزة القيود الطائفية التي ربطت المرجعيات العراقيين بحبالها الغليظة لأكثر من عقد من الزمن. تركزت المطالب على المسائل الاجتماعية التي تمس حياة المواطن مهما كان دينه ومذهبه، كما طالبت بمحاسبة المفسدين، وهي مطالب مقلقة للمرجعية الدينية لأنها تسحب من تحت أقدامها تحويل الحراك إلى اصطراع طائفي ومذهبي. وقد يكون ما فاجأ المرجعية وأرعبها أكثر هو تلك الهتافات التي هتف بها المتظاهرون ضد إيران وتسلطها على الحكم العراقي من خلال هتاف: «طهران برّا...». هذا الهتاف ضد إيران رأت فيه المرجعية استعادة لذلك النفور الذي كان قائماً بين شيعة العراق المستندين إلى قومية عربية عريقة وإلى مرجعية النجف المعتبرة الأساس بالنسبة إلى الطائفة الشيعية، وبين الشيعة الفرس ومرجعيتهم في قم التي عملت خلال السنوات الماضية على تهميش مرجعية النجف.

لا شك في أن ملفاً كبيراً فتح في العراق، حظوظ النجاح والفشل فيه قد تكون متساوية. صحيح أن ما جرى حتى الآن هو الانحناء أمام العاصفة من المرجعيات ومن القوى السياسية المعنية بالاحتجاجات. لكن التأييد لهذه الإصلاحات هو شكلي الآن، والقوى المتضررة منها كبيرة جداً وتملك مواقع أساسية في الدولة والجيش قادرة على إفشاله. وإيران لن تسلم ببساطة بالحد من نفوذها في دولة كان الإعلان الإيراني صريحاً بأن بغداد هي عاصمة الإمبراطورية الفارسية. هذا الإصلاح المعلن عنه لن ينجح إلا بتجاوز نظام المحاصصة الطائفية السائدة، وباستعادة السيادة الوطنية العراقية المستلبة من جانب إيران، وبالعودة إلى دولة مدنية تضع المرجعية الدينية الوصية على السلطة جانباً. فهل سيتمكن العراق من تجاوز هذا النفق؟ الجواب في علم الغيب.
 

* كاتب لبناني


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
الرئيس العراقي: الانتخابات النزيهة كفيلة بإنهاء النزيف
الرئيس العراقي: الانتخابات المقبلة مفصلية
«اجتثاث البعث» يطل برأسه قبل الانتخابات العراقية
الكاظمي يحذّر وزراءه من استغلال مناصبهم لأغراض انتخابية
الموازنة العراقية تدخل دائرة الجدل بعد شهر من إقرارها
مقالات ذات صلة
عن العراق المعذّب الذي زاره البابا - حازم صاغية
قادة العراق يتطلّعون إلى {عقد سياسي جديد}
المغامرة الشجاعة لمصطفى الكاظمي - حازم صاغية
هل أميركا صديقة الكاظمي؟ - روبرت فورد
العراق: تسوية على نار الوباء - سام منسى
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة