يؤسس ميشال عون لضغينة بين المسيحيين اللبنانيين والسنّة. لا يُفوّت فرصة لتغذية هذه الضغينة ومدها بأسباب الكراهية المتبادلة. يستعمل في سعيه هذا أكثر أشكال التعبير ابتذالاً. يرفع مناصروه صورة لرأس تمام سلام مذيلة بعبارة: «الداعشي يمكن أن يكون أصلع»، وصورة أخرى لقرد عاقداً ربطة عنق مع عبارة: «... ويمكن أن يرتدي كرافات».
وإذا كان تمام سلام «داعشياً»، فإن السنّة كلهم «داعش» بحسب الخطاب العوني. ذاك أن سلام، وهو سليل البيت الذي رُسم فيه علم الاستقلال اللبناني، من المفترض أن يكون أقرب وجه سنّي الى المسيحيين في لبنان، فإذا كانت هذه حاله وهو «داعشي» بحسب الوعي العوني الزائف، فما بالك بشخص مثل خالد الضاهر؟
لقد نُكب المسيحيون بميشال عون، ونكبتهم هذه يبدو أنها تفوق نكبتهم بالحروب الكثيرة الخاسرة التي خاضتها أحزابهم وجماعاتهم. فالرجل على استعداد للتضحية بمستقبلهم لقاء تأمين مستقبل لصهر أو ابن أو ابنة. هذا ما يعنيه خوض حرب بأدوات شديدة الابتذال باسم المسيحيين مع الطائفة الكبرى في المنطقة في سبيل منصب لصهره.
ليس في هذا الكلام أي مبالغة، فمن يُعاين ردود الفعل حيال التظاهرة السخيفة التي نظمها العونيون رداً على التمديد لقائد الجيش جان قهوجي، والتي حمّلوا فيها السنّة في لبنان المسؤولية عن القرار، في حين أن وراء القرار توافقاً بين السنة والشيعة والدروز، يشعر أن عون يؤسس لدمار ما تبقى من علاقات أهلية. أن يرفع الناشط العوني والوزير السابق نقولا صحناوي صورة قرد لابساً ربط عنق، في إشارة الى رئيس الحكومة تمام سلام، فهذا ليس مشهداً مبتذلاً فحسب، انما هو جزء من لغة تقطع مع تركيبة أهلية لطالما حرص المسيحيون على استمرارها بين الجماعات البيروتية. ذاك أن منزل صحناوي في الأشرفية لا يبعد أكثر من كيلومتر واحد عن دارة آل سلام في المصيطبة.
ونكبة المسيحيين تكمن هنا تماماً، أي في تولي شخص بمزاج ميشال عون إدارة علاقاتهم مع محيطهم الأهلي والطائفي، واستعداده للمغامرة بتجربتهم كلها على مذبح مصالح أصهاره. ثمة عملية استعاضة تراجيدية هنا، أي أن تتحول حقوق المسيحيين إلى حقوق عائلة على شفير وراثة مستحيلة، وأن يجعل رجل في أواخر عمره السياسي من هذه الحقوق ملهاة بيد قلة مراهقة تجوب شوارع الطبقة المتوسطة في بيروت.
قد يجيب أحدهم عن هذه المخاوف بحقيقة أن ميشال عون عجز عن حشد المسيحيين وراء حقوق أصهاره، وأن التظاهرات كانت هزيلة، وأن صورة وزير الخارجية جبران باسيل (صهر الجنرال) واضعاً نظارتين برتقاليتين استدرجت ضحكاً وهزلاً. كل هذا صحيح إلى حد كبير، لكن العلاقات الأهلية بين جماعات مأزومة كحال الجماعات اللبنانية لا تنتظر أكثر من العراضة العونية حتى تستنفر غرائزها. وميشال عون، على رغم عجزه عن حشد المسيحيين وراء «حقوقه العائلية»، يمثل خياراً مسيحياً قد يكون راجحاً.
والحال أن المشكلة تكمن في منسوب ذكاء العونية، فميشال عون الذي يمثل مسيحيين يعيشون لحظة انخفاض في خيالهم، يستعين في وثباته المذهبية بخبرات حليفه «حزب الله» على هذا الصعيد، وهو بذلك يتعامى عن حقائق أخرى يبدو أن التعامي عنها مغامرة حقيقية. فصحيح أن الحزب جزء من حرب مذهبية سنّية - شيعية كبرى، وهو سبق أن أقدم على مغامرات مع السنّة في لبنان من نوع «7 أيار» حين اجتاح أحياءهم ومناطقهم، إلا أن هذه المغامرات تقتصر نتائجها في الحالة الشيعية على مستقبل العلاقات بين الجماعتين المتنازعتين، لا على مستقبل وجودهما، إذ أن قوى إقليمية سترعى تسويات تعيد تحديد الأحجام والأدوار وفق نتائج النزاع. أما المسيحيون فخارج هذه العلاقات النزاعية، وعلى هامش استقطاباتها الإقليمية. هم في أحسن الأحوال أقلية حلف الأقليات. الأكراد في العراق لم يُبدوا حرصاً كافياً على أقليتهم الأيزدية حين هاجمها «داعش». الأولوية كانت لحماية مناطقهم فانسحبت قواتهم إلى شمال الموصل. «حزب الله» نفسه حين شعر أن التسوية مع «المستقبل» تقتضي التمديد لقائد الجيش ترك حليفه ودخل في التسوية، وبدا عون وحده في الشارع.
يبدو أن هذه معادلات عصية على الوعي العوني، ويبدو أن التمييز بين الموقع الضعيف والملتبس للطائفة السنّية اللبنانية وحقيقة أن الحرب عليها هي حرب على أكبر جماعة في الاقليم يحتاج إلى منسوب ذكاء لا يتمتع به كثيرون ممن نُكب المسيحيون اللبنانيون بهم كممثلين لهم. العودة قليلاً إلى الوراء يا جنرال ضرورية. فالسنّة في لبنان كانوا أقل الجماعات الأهلية مشاركة في الحرب الأهلية، وربما كانوا من أكثرهم تضرراً منها. ذاك أن المدن، مدنهم، شهدت أكثر موجاتها عنفاً، وحين حلت التسوية وحان القطاف عادت هذه الجماعة كحقيقة ثابتة لا يمكن تجاوزها. وحتى حافظ الأسد، الأب الروحي لتجارب الحكم الأقلوية، أدرك في حينه أن شراكة بين جماعاته اللبنانية وبين رفيق الحريري مسألة لا يمكن تفاديها. وحين أطاح نجله بشار بالحريري بدأت مرحلة نهاية الحقبة السورية في لبنان.
تمام سلام هو ممثل «الداعشية السياسية» بحسب الخطاب العوني! لكن من هو السنّي اللبناني الذي يطمح ميشال عون لعقد شراكة معه لحكم لبنان، بما أن طموح الجنرال للحكم لن يكف عن التعاظم. إذا كان تمام سلام داعشياً فلن يجد عون شريكاً سنّياً يليق بأقلويته الكثيفة الشَعْر، طالما أن الصلع نقيصة بحسب السياسي العصري والفرنكوفوني نقولا صحناوي.
والسؤال الفعلي هنا: هل يتصور ميشال عون نفسه رئيساً للبنان من دون السنّة طالما أن تمام سلام «داعشي»؟ الجواب الوحيد هو أنه يئس من احتمال وصوله للكرسي وقرر أن يُضحي بالمسيحيين.
ويبدو أن «داعش» لن يعدم من يدعوه إلى ولائم دم في لبنان، لكن مراهقي «التيار الوطني الحر» سيكونون له بالمرصاد. |