لا يرضى زعيم «التيار الوطني الحر»، ميشال عون، بأقل من «داعش» عدواً له، ولا يشبع غروره خطر أقل دهماً من إعلان لبنان دولة إسلامية، ليدعو أنصاره إلى التظاهر ضدها. هذا على الأقل ما أظهرته الصور والشعارات التي رفعها مناصروه في تحركهم الأخير، حيث صبوا جام غضبهم على «تيار المستقبل» دون سواه من التيارات السياسية، بسبب الاتفاق «السنّي - الشيعي» على التمديد لقائد الجيش وخذلان الجنرال وصهره.
ويبدو أن ما اعتقده اللبنانيون زلة لسان في المرة السابقة، أو ضرباً من ضروب البهلوانية العونية في اتهام رئيس الحكومة تمام سلام بأنه ينتمي إلى «داعش»، تكشف اليوم عن أنه نهج وقناعة راسخة لدى الرجل وقاعدته على السواء. فليست بالمهمة السهلة إقناع متظاهرين معنيين بـ «حقوق المسيحيين» على ما يفترض، أن يحمّلوا علم «تيار المستقبل» بشعار «الدولة الإسلامية، إمارة لبنان»، أو صوراً تقول كتاباتها أن «داعش» يأتي أحياناً بربطة عنق ورأس حليق على عكس الصورة الشائعة، وفي غمز واضح من النموذج الحريري.
وإذا كان اختيار خصم سياسي من عيار «داعش» مؤشراً إلى استفحال حالة الميغالومانيا لدى الجنرال، فإن السؤال المقلق يبقى في معرفة عمق الأزمة التي يتخبط بها ذلك الجمهور، المسيحي، المتهافت من حوله، لا سيما أن الخوف الأقلوي وحده ما عاد كافياً لتفسير ما يقدمون عليه من خيارات وارتكابات. فالخوف يستدعي، منطقياً، التقية والحذر وبعض المراوغة السياسية، وهو ما يبدو أن عون ولفيفه يتقنانه في تعاملهما مع «حزب الله». أما ما يدفع الجنرال باتجاهه حيال العلاقة مع «تيار المستقبل»، فهو السير بخطى ثابتة نحو الانتحار، من دون أن نعرف تحـــديداً أيهما أســـبق. فهل يعكس سلوك عون مزاجاً مسيحياً متفاقماً فيلبيه خطاب شعبوي فئوي، أم إنه هو من يجر الجمهور خلفه إلى مآلات غير مضمونة؟
ذاك أن استعداء طائفة بكاملها بهذه الطريقة الفجة، ونسبها إلى أخطر تنظيم إرهابي حالياً، في بلد لا يزال بمنأى حقيقي عن ظواهر «داعشية» منظمة، هو مما لم يقدم عليه «حزب الله» نفسه في أوج أزمته مع «المستقبل». ولكن، لا يبدو أن عون تعلم شيئاً من تلك الحنكة خلال سنوات تحالفه مع الحزب، بل على العكس بلغت به الرعونة مبلغاً دفعته إلى إطلاق مواقف تهدد مصير مناصريه ومن يدعي حمايتهم من المسيحيين.
فكيف يتوقع عون أن يستقيم أي عمل سياسي محتمل مع جهة أعلنها «داعشية»؟ كيف سيبرر لجمهوره اتصالات ولقاءات مقبلة لا شك مع من اتهمهم بالأمس بالإرهاب؟ وإلى ذلك، كيف يضمن الجنرال أمن مناصريه في مناطق مختلطة كثيرة لا تحتمل الحمية الطائفية فيها مزاحاً من هذا النوع؟
والواقع أن العزل الذي وضع العونيون أنفسهم فيه في تجمهرهم الأخير، سواء لحقوا زعيمهم أم لحقهم هو، يثير القلق عليهم كجماعة ولا شك يستحق التوقف عنده. فهم جمهور قائد يخترع الأعداء إن لم يجدهم، وبات في الوقت نفسه عبئاً ومصدر إحراج للحلفاء. فهو لا يتورع عن أن يعلن في كل مناسبة استغناءه عنهم، معتقداً لا بل مقتنعاً، بأنه ليس في حاجة إليهم، لكنه لعجزه عن مواجهتهم، يلتفت إلى من يرى فيه خصماً ضعيفاً.
وإلى ذلك، إذا كان دفع الأمور إلى حدودها القصوى في التظاهرة الأخيرة، عبر إطلاق تلك التهمة على كامل الطائفة السنّية يدل على شيء، فهو جهل العونيين بالبيئة السنّية - الحريرية من جهة، وجهل أعمق وأكثر خطراً بـ «داعش» نفسه. فقد بدا أن هؤلاء الفتية يظنون «داعش» كمثل الغول أو العنقاء. مجرد كائن متخيل، يستحضرونه في خصوماتهم الضيقة، ثم يعيدونه إلى الخزائن، غير مدركين أنه لو وجد أبو بكر البغدادي في لبنان مصلحة له، لما كان اكتفى بتركه نقطة عبور، ولما كان أتيح لعون أن يهذر على هذا النحو.
لذا، يتبدى أن المعادلة بسيطة. فالجنرال لا يتعامل إلا بمنطق التخويف والازدراء تماماً كما يعامله كل من «حزب الله» وحركة «أمل». أما مع «المستقبل»، فالأمر مختلف. فهو بإمكانه أن يكيل الشتائم والتهم لطائفة برمتها عبر ممثلها السياسي لا لشيء سوى أنه ليس هناك من يردعه.
* كاتبة وصحافيّة من أسرة «الحياة» |