الخميس ٢٨ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آب ١٠, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
أقلية عراقية نزيهة... في معرض الابتلاع! - مشرق عباس
في مهرجان النهب العراقي الحافل، استمر المدنيون (العلمانيون، المثقفون، الناشطون) خارج حسابات القوى الدينية التي غمزت مراراً وتكراراً في وصف هؤلاء بأنهم ليسوا سوى «أقلية» غير مؤثرة، حتى اثبتوا ان بمقدورهم تحريك الشارع العراقي في تظاهرات تغلق بوجهها شوارع المدن وتحشد الحكومة من أجلها جيوشاً مدججة بالسلاح.

التظاهرة التي نفذها الشباب المدنيون في ساحة التحرير ببغداد في 31 تموز الماضي، ورفعت شعار الاحتجاج على الفساد، اثبتت حقائق بالجملة، أهمها أن الحكومة التي تسيطر عليها القوى الدينية تخشى المثقفين، فتغلق نصف بغداد لمنع المتظاهرين من الوصول الى ساحة التظاهر، فيما تنظم قوى دينية تظاهراتها ومهرجاناتها في أي مكان ترغب فيه، وتحشد الدولة اساطيل وزارة النقل العراقية لنقل المتظاهرين، مثلما توفر لهم خاصية حمل السلاح.

ببساطة ان القوى الدينية بأجنحتها المسلحة هي «السلطة» الحقيقية في العراق، وهي الطرف الحاكم طوال السنوات الماضية، وهي من يمكن ان تتوجه اليه مطالب التظاهرات المدنية، وإلا فإن الجميع يشترك في حجب الحقيقة.

الى حين نجاح تظاهرة بغداد وامتدادها طوال الاسبوع اللاحق لمعظم المدن العراقية، كانت الرسالة واضحة: «المدنيون غير المنظمين وبعفوية صادقة، هم الأكثر نزاهة في هذا البلد، وهم الأقلية الوحيدة القادرة على حشد الشارع العراقي، والتأثير في خياراته المستقبلية».

لكن، فجأة، أعلنت الأجنحة الدينية المسلحة التي انخرطت في «الحشد الشعبي»، انها ستنزل الى الشارع مع المدنيين في تظاهرة واحدة، يوم الجمعة 7 آب، ووضعت عنوان «الحشد المدني» لهذه المشاركة.

انقسم الشارع الثقافي والمدني العراقي على نفسه، فاختار بعضهم الاعتذار العلني عن الخروج في هذه التظاهرة، وتمسك آخرون بها تحت بند «تحالف انتقالي لإنقاذ البلد» وهو بالمصادفة البلد نفسه الذي ضيعته قوى الاسلام السياسي، وعاثت فيه، وامتصت خيراته، قبل ان تسلم نصفه في نهاية المطاف الى «داعش».

فتوى المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني (الجهاد الكفائي) التي انتجت «الحشد الشعبي» كانت مناسبة كبيرة لإحداث انتقالة جديدة لعدد من القوى الدينية والشخصيات الحكومية السابقة، على قاعدة ان المجرب يمكن ان يجرب مراراً وتكراراً، وينتقل من خانة الفاشل والمبدد والفاسد، الى خانة البطل والمجاهد، فلم يكن الأمر يتطلب أكثر من ان يقرر سياسي ارتداء «الكاكي» واخذ السيلفي في جبهات القتال، او تشكيل مجموعة عسكرية يتم ضمها الى «الحشد» الذي تعددت عناوينه وتكاثرت لتشمل بالاضافة الى المتطوعين الصادقين، كل الوسط السياسي الذي حكم العراق لحظة تسليمه الى «داعش»!

ولأن العراق مصنع تجارب، فإن للقادة الكبار الذين تسلموا القرار العسكري حق التفكير بمستقبلهم السياسي، فلا فائدة من تضحيات الحشود التي اندفعت الى ساحات القتال اذا لم تترجم الى أرقام سياسية اليوم وليس غداً، وحتى قبل تحرير الارض بكاملها من «داعش»، وكان من المنطقي ان يسمع العراقيون تسريبات عن انقلاب عسكري مرتقب، وان يثقف بعض رجال الدين بتغيير نظام الحكم من برلماني الى رئاسي.

صمت الجميع، ومن ضمنهم رؤوس الدولة، وهم يراقبون تنامي طموحات قيادات الفصائل المسلحة، وصمت المدنيون ايضاً، خشية ان يتهموا بالتآمر مع «داعش» او خيانة «المرجعية». صمتوا عندما حاولوا التساؤل عن مصير فتوى السيد السيستاني بحصر التطوع في صفوف الجيش والشرطة. وعندما بدأت التجاوزات والاعتداءات تتوالى وتنقل بصور واشرطة فيديو، وصمتوا عن تصاعد التضارب بين قيادات الفصائل والجيش، والقائد العام للقوات المسلحة.

بل إن المدنيين اختاروا ان يرفعوا شعار «حشد يحارب داعش، وحشد يحارب الفساد» لاثبات انهم منسجمين مع «الحشد الشعبي» وليسوا متقاطعين معه، وحتى لا يتم استخدام القتال مع «داعش» مبرراً للفساد وحرمان السكان من حقوقهم الطبيعية بالتظاهر.

واقع الحال، ان عراقيين كثراً يثمنون عالياً تضحيات «الحشد الشعبي» ودوره الكبير في صد تمدد «داعش» بل وتقليص نفوذه واستعادة مدن مهمة من بين براثنه في ديالى وصلاح الدين وجنوب بغداد، كما انهم يدركون ان هؤلاء الشباب المتطوعين، هم أبناء المجتمع نفسه الذي اذلته سياسات القوى الدينية وأجهضت طموحه ببناء دولة متمكنة وحرة وغير تابعة وقادرة على اللحاق بالمستقبل.

لكن لماذا يتظاهر المدنيون؟ ولماذا يجب ان يتظاهروا بعنوانهم فقط؟ ولماذا عليهم ان لا يسمحوا لقوى السلطة المختلفة بركوب احتجاجاتهم؟

فأما ان يتظاهر المدنيون، فإنهم يتظاهرون للمطالبة بسياق سليم يحفظ وحدة الدولة ويصون كرامة شعبها، ويدفع باتجاه تمكين هذا الشعب من ممارسة اختياراته الوطنية بعيداً عن التأثيرات الدينية والطائفية والانحيازات الاثنية والعرقية.

على هذا الصعيد يمكن الاشارة إلى ان القوى السياسية فشلت على رغم الفرص المتعددة في انتاج اي خطة مقبولة لادارة البلاد، فرفضت الاعتماد على الكفاءات، واختارت ان تعتمد على شخصيات مأزومة تفتقر الى الحكمة جرت البلاد الى نفق الطائفية والفساد. عندما يتظاهر المدني رافعاً راية وطنه، فإنه في الواقع يتظاهر ضد كل من ساهم في تحويل هذه الراية الى رايات ... وايضاً ضد كل من احترف التمزيق كمهنة، ويريد اليوم تقمص دور الخياط! لأن براميل النفط لم يعد بمقدورها تمرير مهرجانات الفشل.

في لحظة حكومة العبادي، كان على القوى التي شاركت في صوغ آخر فرص الاصلاح، ان تنتبه لفداحة الخسارة التي ألحقتها بالعراق خلال السنوات الماضية، وكان عليها ان تتدارك عبر قائمة من الحلول والمعالجات والتنازلات، بإصلاحات عميقة ومؤلمة ومصارحات خادشة وخطوات عملية صادمة، تنقذ ما يمكن انقاذه لكنها لم تفعل.

ليس على الأقلية المدنية الكبيرة بتأثيرها، ان تنتظر بدورها ان يصدر قرار الاصلاح من خارج الحدود، وحسناً فعلت بوضع الجميع امام حقيقة فشل الطبقة السياسية التي أدارت شؤون هذا البلد للسنوات الماضية.

نظرياً، كان يمكن للحراك المدني المتواصل ان يجبر قوى السلطة والمال والسلاح والقيادات الدينية في البلاد ان تركن الى الحوار المسؤول والصريح مع المدنيين وصولاً الى شراكة صعبة تضمن المستقبل، لكن عملياً وكأي حراك اجتماعي غير منظم ويفتقر الى الخبرة سرعان ما اهتز وارتبك فأصبح بمعرض الابتلاع، ليؤجل معركة مدنية الدولة الى وقت آخر، بانتظار ان تحسم قوى الاسلام السياسي معارك اجنحتها واحزابها ومنافسات أقطابها للوصول الى السلطة.



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
الرئيس العراقي: الانتخابات النزيهة كفيلة بإنهاء النزيف
الرئيس العراقي: الانتخابات المقبلة مفصلية
«اجتثاث البعث» يطل برأسه قبل الانتخابات العراقية
الكاظمي يحذّر وزراءه من استغلال مناصبهم لأغراض انتخابية
الموازنة العراقية تدخل دائرة الجدل بعد شهر من إقرارها
مقالات ذات صلة
عن العراق المعذّب الذي زاره البابا - حازم صاغية
قادة العراق يتطلّعون إلى {عقد سياسي جديد}
المغامرة الشجاعة لمصطفى الكاظمي - حازم صاغية
هل أميركا صديقة الكاظمي؟ - روبرت فورد
العراق: تسوية على نار الوباء - سام منسى
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة