ظهر إلى العلن أخيراً صراع حادّ على قيادة حركة الإخوان المسلمين في مصر. فالأعضاء السابقون في مكتب الإرشاد، وهو الهيئة التنفيذية العليا التي تضع سياسات الجماعة، يتنافسون مع القيادة الجديدة التي انتُخبت في شباط 2014، ويتولّون قيادة أنشطة الإخوان على الأرض منذ ذلك الحين. الصراع داخل جماعة الإخوان ليس بالحدث الجديد، حيث تمكّنت الجماعة من احتواء الخلاف لأشهر عدّة كي تتجنّب إلحاق الأذى بتماسكها وبمعنويات أفرادها على الأرض. بيد أن التعبير العلني عن الخلاف الذي طال أمده يُعتبر أمراً جديداً. وقد خرج الخلاف إلى العلن في أيار 2015، في أعقاب تراشق حادّ بين الفصيلين في وسائل الإعلام.
تعاملت وسائل الإعلام مع الصراع على أنه خلاف بشأن استراتيجيتين متعارضتين: نهج سلمي تنادي به القيادة السابقة، والتوجّه نحو العنف الذي اعتمدته القيادة الحالية. بيد أن هذه الصورة تبدو مضلِّلة. إذ ينطوي الخلاف على صراع أعمق حول القواعد التي تحكم عمل الجماعة، فضلاً عن طبيعة العلاقة بين القاعدة الشعبية والقيادة، ودور كل منهما في عمليات صنع القرار في الجماعة.
دفعت الظروف السياسية في مصر، منذ اطاحة الرئيس آنذاك محمد مرسي في العام 2013، جماعة الإخوان المسلمين إلى صوغ قواعد جديدة لتنظيم أنشطتها. فالقيادة لم تعد تملك سلطة مطلقة في إدارة شؤون الجماعة، كما كانت حالها قبل آب 2013. وبدلاً من ذلك، غالباً ماتقود القاعدة الشبابية الشعبية أنشطة جماعة الإخوان على الأرض، حيث اضطرّت القيادة إلى تحقيق التوازن بين مبادئ الجماعة ومبادرات قاعدتها. غير أن القيادة القديمة للإخوان المسلمين ترى في ذلك خروجاً عن نمط الإدارة الذي اعتادت عليه وتهديداً لتماسك الجماعة وهويتها.
وجّه تصاعد المواجهة الأمنية واعتقال قادة من جماعة الإخوان ضربة قوية للجماعة، التي كان وضعها غير مستقرّ لأشهر عدّة، قبل أن تعود بهيكلية وخطة عمل جديدتَين. على المستوى التنظيمي، بدأت جماعة الإخوان بوضع هياكل جديدة للتكيّف مع التغييرات الحاصلة على الأرض، مثل حاجتها إلى العمل السري وزيادة المواجهات بين أعضائها وقوات الأمن.
على المستوى الحركي، اعتمدت القيادة الجديدة مايُسمّى نهج "السلمية المبدعة الموجعة"، الذي يجمع بين استمرار الأنشطة السلمية في الشارع والعنف المحدود المستخدم في عمليات تهدف إلى استنزاف قوة النظام السياسي. وقد عنى ذلك تنفيذ عمليات من دون استهداف الأبرياء، وممارسة الثأر الموجّه وتجنّب العنف العشوائي.
التزم أعضاء جماعة الإخوان بمبدأ السلمية في الماضي. بيد أن البعض اعتقد أن الخيار السلمي لن يحقق هدف الجماعة المتمثّل في إسقاط النظام السياسي الحالي، أو على الأقل الضغط عليه لتقديم تنازلات سياسية في ظل الحملة الأمنية التي يقوم بها.
ونتيجةً لذلك، بدأ بعض الأعضاء بتنفيذ أعمال عنف فردية محدودة، مثل حرق سيارات الشرطة. ولأن القيادة فشلت في منع هذه الأعمال الفردية، حاولت بعد ذلك تنظيم تلك العمليات بهدف زعزعة النظام واستنزاف قوّته.
حرصت القيادة الجديدة على تجنّب تنفير شرائح المجتمع التي عارضت حملة القمع العنيفة ضد الإخوان، لكنها قد تعارض أيضاً لجوء الجماعة إلى وسائل عنيفة لمقاومة السلطات. وطالبت بضبط إيقاع العمليات تماشياً مع المشاعر الشعبية في منطقة معينة. بعبارة أخرى، سمحت جماعة الإخوان بتنفيذ مستوى أعلى من العمليات في المناطق التي ساد فيها غضب واضح تجاه النظام السياسي، والعكس بالعكس.
مع ذلك، رفضت القيادة الجديدة السماح لأعضائها باستخدام العنف عشوائياً ضدّ قوات الجيش والشرطة. ووفقاً للقيادة، لاينبغي أن يتم استهداف الأفراد الذين لم يشاركوا في أعمال عنف ضد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وأسرهم. كما أعربت القيادة عن تحفّظات بشأن استخدام العنف للانتقام من أعمال العنف التي نُفّذت ضد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وأسرهم، لكنها اضطرّت في بعض الحالات إلى الموافقة على تلك الممارسات. ومع ذلك، أصرّت على ضرورة أن تتناسب هذه الأعمال الانتقامية مع أعمال العنف التي ارتُكبت في المقام الأول، وأن تستهدف فقط الشخص الذي شارك في أعمال العنف.
بدا أن العنف المحدود يمثّل استراتيجية مناسبة للقيادة الجديدة. فهو قد يساعد في الحفاظ على التماسك التنظيمي ويمنع الأعضاء الشباب من أن يصبحوا جزءاً من المنظمات الجهادية الأصولية، في ضوء تزايد غضبهم ورفضهم اعتماد الوسائل السلمية. كما يمكن أن يساعد ذلك في الضغط على النظام السياسي لتغيير ميزان القوى وتمهيد الطريق نحو التوصّل إلى حلّ سياسي.
إضافةً إلى ذلك، تبدو نسبة الأعضاء الذين يريدون حمل السلاح داخل جماعة الإخوان المسلمين ضئيلة نسبياً. ففي استطلاع للرأي أجري في اجتماع لكوادر شباب الإخوان في إحدى المحافظات المصرية، أيّد أقلّ من 30 عضواً من أصل 300 عضو حضروا الاجتماع العملَ المسلّح. وفضّل الآخرون مواصلة عملهم على الأرض باستخدام وسائل غير عنيفة.
وضعت القيادة الجديدة سيناريوين لمستقبل هذه الاستراتيجية. إذ يمكن لعمل جماعة الإخوان أن ينجح في جذب المعارضين الآخرين للنظام السياسي، ويمكن أن يتطوّر إلى ثورة شعبية قد تجبر النظام على التخلّي عن السلطة. أو يمكن للتحرّك على الأرض أن يضعف سيطرة الرئيس الجديد عبد الفتاح السيسي على نظامه، الأمر الذي قد يمهّد الطريق لحدوث انقلاب قصر يؤدّي إلى تشكيل قيادة جديدة للدولة يمكن جماعة الإخوان أن تتفاوض معها.
غير أن جميع أعضاء جماعة الإخوان لايشاطرون القيادة الجديدة رؤيتها، حيث سعى بعض الشخصيات من القيادة القديمة إلى فرض سيطرتهم مجدّداً.
رأى البعض أن ردّ القيادة القديمة يمكن أن يلخَّص على أنه خلاف حول استخدام العنف. غير أن الصراع أوسع من أن يكون مجرّد خلاف حول الالتزام بالوسائل السلمية أو استخدام العنف ضدّ النظام. فهو يتعلّق بقواعد إدارة الجماعة وعمليات اتّخاذ القرارات الداخلية، والعلاقة بين القيادة والقاعدة الشعبية.
يرفض الحرس القديم الهامش الكبير للمناورة الذي مُنح لقاعدة الإخوان الأكثر ثوريةً، وقدرتها على تحديد أولوياتها على الأرض. يرى الجيل القديم في ذلك تهديداً لبقاء الجماعة كياناً متماسكاً، ويشعر بالحاجة إلى إحكام القيادة قبضتها على اتجاه وسرعة التحرّكات على الأرض.
تعتقد القيادة الجديدة أن الأحداث تجاوزت رؤية الحرس القديم، وأن ميزان القوى بين القيادة والقاعدة قد تغيّر. ونتيجةً لذلك، يؤمن القادة الجدد بضرورة أن تؤخذ أولويات القاعدة في عين الاعتبار. ويرَوْن أن الهدف ينبغي أن يكون ضمان استمرارية الحركة الثورية على الأرض.
لكن القيادة القديمة تخشى هذا النهج. فهي تعتقد أن هذه الطريقة في العمل قد تنجح في احتواء القاعدة، لكنها ستغيّر شكل الجماعة الذي كانت عليه منذ فترة طويلة. ويفضّل القادة القدامى أن يخسروا جزءاً من القاعدة الشعبية على أن يخسروا الجماعة التي يعرفونها وبنوها على مدى العقود الأربعة الماضية.
ثمّة عنصر آخر يعكّر صفو الحرس القديم ويتمثّل في الدور ذي الأهمية المتزايدة الذي تضطلع به دوائر إسلامية ليست مُنتمية إلى جماعة الإخوان المسلمين، ولكنها متعاطفة معها، في تحديد مسار الحركة على الأرض. هؤلاء الإسلاميون موجودون في الخطوط الأمامية، حيث يتم إلقاء القبض عليهم أو يصابون خلال الاشتباكات مع قوات الأمن، وهم لايشعرون أنهم مضطرون إلى الالتزام بقرارات قيادة جماعة الإخوان المسلمين، التي ليست سوى جزء من الصراع ضدّ النظام. وفي حين تعترف القيادة الجديدة بضرورة الاستفادة من أولئك الإسلاميين غير المنظّمين، حتى لو سمحت لهم بقدر أكبر من النفوذ على الأرض، ترى القيادة القديمة في هذا الوضع غير المستقرّ خطراً على هيكل الجماعة وأفكارها.
في الوقت نفسه، تتّفق القيادتان في الحقيقة على ضرورة تجنّب العنف على نطاق واسع، ولكن لأسباب مختلفة. إذ يرفض القادة القدامى الميل نحو العنف لأنه ينتهك مبادئ الجماعة، التي يعتبرون أنفسهم حماتها ولسان حالها. وترفض القيادة الجديدة الانجرار إلى العنف لأسباب عملية وبراغماتية تتعلّق بحجم الدعم الشعبي للنظام والخسائر التي يمكن أن تتكبّدها الجماعة في حال حملت السلاح ولجأت إلى العنف على نطاق واسع. ومع ذلك، يعترف القادة الجدد بأنه إذا كانت هناك موافقة مجتمعية في مرحلة ما على استخدام المزيد من العنف على نطاق أوسع، فإنهم سيستخدمونه. ويُعتبَر استخدام العنف بالنسبة إلى القيادة الجديدة خياراً ينبغي تقويمه وفقاً لتحليل التكاليف والمنافع فقط، ولاينبغي استبعاده فكرياً كما يقول الحرس القديم.
الوقع أن القيادة القديمة لديها حسابات أخرى تتجاوز الوضع الداخلي في مصر. فالحرس القديم يدرك أن خيارات القاعدة على الأرض لاتتعلّق بالوضع المصري وحسب، وأنه ستكون لها آثار كبيرة على حركة الإخوان المسلمين في بلدان أخرى. وبالتالي من شأن اللجوء إلى مزيد من العنف أن يضرّ بحركة الإخوان المسلمين.
مركز كارنيغي للشرق الأوسط (اقسام من مقالة طويلة)
|