الثلثاء ٢٦ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تموز ٢٣, ٢٠١٥
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
الواقع العربي ومسألة الدولة الوطنية - ساسين عساف
في الواقع العربي الراهن تتقدّم مسألة الدولة الوطنية على كلّ المسائل الأخرى لا بل هي وقف عليها حيث لا سبيل إلى استشراف مستقبل الوطن العربي ومنطقة الشرق الأوسط من دون أن يعرف مصيرها.
 
الدولة الوطنية تمرّ في مرحلة إنتقالية نهاياتها مفتوحة على غير احتمال. من هذه الإحتمالات:
- توسيع حدود وتقليص حدود، أي نشوء دول لم تكن وانهيار دول كانت موجودة.
- ترسيم حدود لدويلات طائفية وإتنية أي تقسيم داخل حدود بعض الدول.
- تفاهمات على أنظمة فيديرالية أي دولة مركّبة مع المحافظة على وحدة الكيان القائم.
- عقد إجتماعي جديد لدولة وحدوية أي دولة عضوية.

كلّ من هذه الإحتمالات في حال تحقّقه على كامل مساحة الوطن العربي أو على قسم منها سيترك إنعكاساته على مشروعه. "اليمن ينهار أمام أعيننا". عبارة قالها بان كي مون أمين عام الأمم المتّحدة. وهي عبارة تنطبق على دول أخرى لا يقلّ ما يجري فيها لا بل أحياناً يزيد عمّا هو جار في اليمن ما ينذر فعلاً بانهيارها أمام أعين العالم. من هذا "العالم" من خطّط لهذا الإنهيار ومنه من موّل، ومنه من نفّذ، ومنه من سيلقى التبعات.

إحتلال العراق لا يمثّل نهاية الإستراتيجية الأميركية بل بدايتها وهي قائمة على تدمير سيادة الدول وتفكيكها وإعادة تركيبها وفق مقتضيات السيطرة وليس وفق ما تريده الإنسانية كما ادّعى بوش في خطاب ألقاه بتاريخ 25 حزيران 2002. والأصحّ في هذا السياق هو ما أفصح عنه كولن باول بعد احتلال العراق بإعلانه أنّ الولايات المتّحدة ستعيد تشكيل الشرق الأوسط بما يتّفق مع مصالحها. إنّه "الشرق الأوسط الكبير" الذي يجعل المنطقة الممتدّة من أندونيسيا في قلب آسيا إلى المغرب وموريتانيا على شواطئ الأطلسي تحت السيطرة الأميركية ويجعل أمن الكيان الصهيوني مضموناً.

إستراتيجية التفكيك والدّمج تشمل الدول العربية وباكستان وإيران وتركيا وأفغانستان والكيان الصهيوني وتذوّب الوطن العربي في محيط جيو / سياسي واسع وتدرج الكيان الصهيوني في هذا المحيط. هذا المشروع وضعه "المحافظون الجدد" في إدارة جورج بوش الابن لمنطقة تضم هذه الدول وأعلن عنه في آذار 2004 كجزء من المشروع الأمبراطوري للسيطرة على العالم وثرواته تحت عناوين جاذبة، منها: تشجيع الديموقراطية والحكم الصالح ، بناء مجتمع المعرفة، توسيع الفرص الإقتصادية.

من طلائع هذه المشروع صرف إيران عن التطلّع إلى الدول الإسلامية المنفكّة عن الإتّحاد السوفياتي وشدّ نظرها إلى الدول العربية المرشّحة للتقسيم إلى دويلات شيعية وسنّية وإتنية. ومن طلائع هذا المشروع كذلك تسمية إيران وتركيا أعضاء مراقبين في جامعة الدول العربية ما يذكّر باقتراح شمعون بيريس في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" لجعل الدولة العبرية عضواً في هذه الجامعة أو إبدالها بـ"جامعة الشرق الأوسط".

الإستراتيجية الفعّالة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط إثارة الفتنة بين الشيعة والسنّة وتأجيج الصراع بين العرب و"الفرس". هكذا ينتصر الغرب في حربه "الحضارية" على الإسلام ويجد في هذا الإنتصار فرصته التاريخية لإعادة التشكيل. عدد من القادة العرب راح يحذّر من تصاعد "الهلال الشيعي" ما أدخل العلاقات العربية/الإيرانية في أزمة شديدة التعقيد بانت تفاعلاتها في العراق والبحرين وسوريا ولبنان والكويت والإمارات واليمن والمنطقة الشرقية من السعودية.

بعد احتلال العراق (2003) وعدوان تموز على لبنان (2006) بدأ المخطّط الأميركي التقسيمي يسلك طريقه إلى التنفيذ (كوندوليزا رايس اعتبرت عدوان تموز على لبنان بداية مخاض لولادة شرق أوسط جديد)، شرق أوسط جديد يتشكّل منذ ذلك التاريخ ولم تستقرّ له صورة حتى الآن. الحرب على العراق شكّلت بدايات التحوّل و"الرّبيع العربي" شكّل محطّة اساسية في خطّ استمراره.

مع إطلالته في تونس وعبوره إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا تجدّد الكلام على سايكس /بيكو ثان لشرق أوسط جديد ترسم حدود دويلاته بدم شعوبه. وتعدّدت سيناريوات التحوّل الجيو/ سياسي بالإرتكاز إلى إستراتيجيات ومخططات التقسيم والتجزئة المعدّة لهذه المنطقة منذ بدايات القرن الماضي. السيناريوات متعدّدة ومتبدّلة أمّا الأهداف فواحدة وثابتة: منع قيام وطن عربي واحد وتثبيت للكيان الصهيوني.

في العام 1907 وضع رئيس الحكومة البريطانية كامبل في نهاية مؤتمر شاركت فيه فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وثيقة سرّية تحمل إسمه وتعبّر عن رؤية الإستعمار القديم لمنطقة الشرق الأوسط بما فيها بالطبع الوطن العربي. وهي تهدف إلى إستمرار سيطرة الحضارة الغربية على العالم. ما يعنينا من بنود هذه الوثيقة البند الذي أسّس لسايكس / بيكو ووعد بلفور: إقامة دولة قومية لليهود تشكّل حاجزاً مانعاً لأيّ وحدة عربية ممكنة ما بين قسمي الوطن العربي الآسيوي والإفريقي.

هذه الوثيقة ببنودها كافة السياسية والثقافية والدينية هي الموجّه لسياسة الإستعمارين الأوروبي والأميركي، سياسة التقسيم والسيطرة. إتفاقية سايكس/ بيكو هي الجزء الخاص التنفيذي لمعاهدة بطرسبورغ التي عقدت بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية في آذار 1916 وقسّمت فيها الأمبرطورية العثمانية. تخطّت تطلّعات العرب لإقامة دولتهم، فرضت التقسيم، ووضعت العرب تحت السيطرة الإستعمارية. جاء بعدها وعد بلفور 1917 ليمنع أيّ إمكان لقيام وطن عربي واحد. سايكس / بيكو 1916 مكّن الغرب من زرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، أمّا اليوم فمطلوب سايكس /بيكو جديد يضمن أمن الكيان وبقاءه على أساس أنّه كلّما إزداد عدد الدويلات في الوطن العربي كلّما ازدادت ضمانات أمن الكيان واستمراره.

سايكس / بيكو الأوّل رسمته إتفاقات القصور في الغرب وفرضته على شعوب المنطقة. أمّا سايكس / بيكو اليوم فترسمه حدود الدم بين مكوّنات شعوبها. سايكس / بيكو الأوّل قام على التجزئة داخل حدود الوطن العربي. أمّا سايكس / بيكو اليوم فيقوم على التجزئة داخل حدود الدولة الوطنية. والسؤال الناتج عن هذه المقارنة: هل بات الوطن العربي في مخاض "ما بعد الدولة الوطنية" التي تداعت بناها بفعل ما تشهده من حروب "التجزئة داخل حدودها"؟

في العام 1980 والحرب العراقية / الإيرانية مستعرة صرّح بريجينسكي مستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر بالآتي: "... إنّ المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتّحدة حتى الآن هي كيف يمكن إشعال حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الحرب الخليجية الأولى التي حدثت بين العراق وإيران تستطيع أميركا من خلالها تصحيح حدود سايكس /بيكو." وهذا ما هو حاصل اليوم: تصحيح الحدود على حدود الدم. (مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان العراق قال في حوار مع جريدة "الحياة" في7 شباط 2015: "إنّ الحدود الموروثة من سايكس/بيكو كانت مصطنعة وإنّ حدوداً جديدة ترسم الآن بالدم في العراق وسوريا واليمن". حدود مصطنعة انشأتها إتفاقية سايكس / بيكو يعاد رسم حدودها مجددا على اسس طائفية ومذهبية وإتنية. جاء الحدث المقرون بالتفتيت الطائفي والمذهبي والإتني من نتائج إحتلال العراق، والتدخّل الأطلسي في ليبيا والحرب على سوريا ومدّها بغذاء خارجي في اليمن. الدولة الوطنية في هذه الدول هي قيد التفكّك. اختفت الهوية الوطنية وبرزت هويات طائفية وإتنية راحت تترسخ معالمها يوماً بعد آخر.

استاذ جامعي



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة