نخطئ خطأ جسيماً لو ظننا أن تجديد الفكر الديني يتمثل أساساً في مراجعة ونقد بعض الأفكار المتطرفة المبثوثة في الخطاب الديني. هذا سواء تمثل الخطاب في الكتب الأزهرية المقررة على طلبة الأزهر، أو في بعض الكتب التي ألفها كتاب متطرفون مارسوا القياس الخاطئ أو التأويل المنحرف للآيات القرآنية، للترويج للفكر التكفيري والذي هو أساس العمل الإرهابي.
المطلوب قبل إحداث ثورة دينية - تركز على المقاصد العليا في الإسلام والتي تتمثل في الحرية الإنسانية والعدالة الاجتماعية والحفاظ على الكرامة الإنسانية - هو القيام بـ"ثورة معرفية" تركز على مناهج التعليم العتيقة البالية سواء في المعاهد الأزهرية التي تخصصت في تعليم الفكر الديني، أو في مؤسسات التعليم المدني الزاخرة بقشور العلم، والتي لا محل فيها لفكر ديني مستنير.
وهذه الثورة المعرفية المقترحة لها أركان أساسية، أهمها على الإطلاق تأسيس العقل النقدي الذي يطرح كل الظواهر الاجتماعية والثقافية والطبيعية للمساءلة وفق قواعد التفكير النقدي المسلم بها في علوم الفلسفة والمنطق. وتشتد الحاجة إلى تكوين العقل النقدي بعد ثورة المعلومات التي أدت إلى تدفقها في كل المجالات المعرفية على شبكة الإنترنت، مما يستدعي في المقام الأول عقلا نقديا، لأن المعلومات لا تكون معرفة، ومن هنا أهمية تصنيف هذا الفيض من المعلومات للتفرقة بين الصحيح والزائف والمتحيز والموضوعي.
والركن الثاني جَسْر الفجوة بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية على أساس مبدأ وحدة العلوم، والركن الثالث هو الدراسة العلمية للسلوك الديني لمعرفة صوره وأنماطه السوية والمنحرفة على السواء. والركن الرابع والأخير استخدام الاكتشافات الجديدة في علم اللغة والمنهجيات المستحدثة في تحليل الخطاب لتأويل الآيات القرآنية حتى تتناسب أحكامها مع روح العصر. ويبقى السؤال المهم كيف نصوغ العقل النقدي؟ والإجابة على ذلك تكون بتعليم الطلاب منذ المرحلة الثانوية أيا يكن تعليمهم دينياً أو مدنيا قواعد التفكير النقدي.
وقد أتيح لي أخيراً أن اطلع على كتاب بالغ الأهمية في هذا الصدد بعنوان "التفكير النقدي" ألفه كل من تريسي بويل وغاري كمب، ونشر بالإنجليزية عام 2010 في طبعته الثالثة، وترجمه ترجمة ناصعة إلى اللغة العربية الدكتور عصام زكريا جميل مدرس المنطق والتفكير العلمي بجامعة القاهرة، ونشره المركز القومي للترجمة بالقاهرة عام 2015.
وبعد إطلاعي الدقيق على هذا الكتاب أستطيع أن أذكر أنه يمثل مرجعا فريدا في مجال تعليم التفكير النقدي، وهو موجه أساسا للشباب وغيرهم ومكتوب بسلاسة نادرة ووضوح فكري. وفي تصورنا أنه يصلح أساسا لتدريس الموضوع في المدارس الثانوية وفي الجامعات، وينبغي أن يكون مقررا على كل الطلبة سواء كانوا يدرسون العلوم البحتة أو العلوم الاجتماعية والإنسانيات.
والكتاب الذي نتحدث عنه وهو "التفكير النقدي" له عنوان فرعي هو "دليل مختصر".
وفي بداية الكتاب فقرة بعنوان مدخل للفصول تقول "نحن نواجه الحجج باستمرار وما هي إلا محاولات لإقناعنا والتأثير على معتقداتنا وأفعالنا من خلال منحنا من الأسباب ما يدفعنا إلى تصديق هذا أو ذاك، أو إلى التصرف بهذه الطريقة أو تلك. وسوف يزودك هذا الكتاب بالمفاهيم والأساليب التي تستخدم في تبين وتحليل وتقويم الحجج. أما غرضنا فهو الارتقاء بقدرتك على تبين ما إذا كانت هناك حجج بالفعل وطبيعة الحجة."
في تصورنا أن هذه الفقرة تحتوي على الأهمية القصوى لتعليم قواعد التفكير النقدي. فالكتاب بذكاء بالغ يركز على أننا كمواطنين نواجَه في المجال الاجتماعي بحجج مختلفة سواء كانت سياسية من قبل أحزاب سياسية للترويج لبرامجها، أو من قبل جماعات دينية تدعو المواطنين لكي يلتحقوا بصفوفها، سواء من أجل الدعوة أو من أجل الجهاد في سبيل الله والذي قد يتحول إلى إرهاب منظم سواء ضد الدولة أو مؤسساتها أو حتى ضد المواطنين العاديين، كما تفعل الآن جماعة الإخوان المسلمين التي تمارس اغتيال ضباط الشرطة والقوات المسلحة ورجال القضاء ونسف أبراج الكهرباء عقابا للشعب – كما يقول قادتهم- الذي أيد "30 يونيو".
من هنا أهمية الهدف من الكتاب وهو معرفة المفاهيم والأساليب التي تستخدم في تبين وتحليل وتقويم الحجج. وبناء على هذا الدرس نستطيع أن نقوّم الحجج السياسية التي تتبناها الأحزاب السياسية أو الجماعات الدينية. فإذا زعمت جماعة دينية متطرفة – على سبيل المثال- أن الدولة كافرة لأنها لا تطبق أحكام الشريعة الإسلامية وأن الخروج عليها بمعنى الانقلاب ضدها ولو باستخدام العنف والإرهاب مشروع، فإن علينا – وفق مبادئ التفكير النقدي- أن نفحص صحة هذه الحجج. غير أنه في المجال الديني لا يمكن اكتشاف صحة هذه الحجج من زيفها إلا لو قرأنا النصوص الدينية سواء كانت آيات قرآنية أو أحاديث نبوية قراءة صحيحة، وإلا وقعنا في الفخ الذي ينصبه قادة الجماعات التكفيرية والإرهابية وهو اللجوء إلى القياس الخاطئ والتأويل المنحرف للنصوص.
ولو ألقينا بعد ذلك نظرة سريعة على محتويات كتاب التفكير النقدي لوجدناه ينقسم إلى ثمانية فصول. في الفصل الأول تعريف بمفهوم الحجة كما ينبغي أن يفهم في أغراض التفكير النقدي، والثاني يعالج مختلف السبل اللغوية التي تصاغ بها الحجج، والثالث يقدم معايير صحة الحجج ودقتها، والرابع مواصلة لتعميق مسألة تقويم الحجج، والخامس مناقشة تفصيلية لكيفية إعادة بناء الحجة حتى تستقيم، والسادس يهتم بالمزيد من مفاهيم وأساليب تقويم الحجة، والسابع مناقشة مستفيضة للمغالطات وأساليب الحجة المغلوطة، والفصل الثامن والأخير يتناول بعض المسائل الفلسفية التي تتعلق بالصدق وعلاقته بالاعتقاد والمعرفة، ويربط بين تلك المسائل ومفهوم الإقناع العقلاني.
في ضوء هذا العرض السريع لمحتوى كتاب "التفكير النقدي" - تتبين الأهمية القصوى لتدريسه في المراحل الثانوية والجامعية، لأن الشباب على وجه الخصوص يجابهون بأسئلة حاسمة في مجال السياسة والاقتصاد والدين.
في مجال السياسة أثير سؤال جوهري هل 30 يونيو انقلاب عسكري أم أنه انقلاب شعبي أيدته القوات المسلحة؟ وفي مجال الاقتصاد هل الاقتصاد الحر ينبغي أن يطبق بغير حدود ولا قيود بحجة تشجيع الاستثمار والمستثمرين أم لابد من وضع حدود معينة لكفالة تحقيق العدالة الاجتماعية والتي هي أحد شعارات ثورة 25 يناير الأساسية؟
وفي مجال الدين هل الحجج التي تقدمها جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية عن شرعية مقاومة الدولة المصرية بل وعقاب الشعب المصري لأنه أيد 30 يونيو صحيحة أم زائفة؟ وهكذا يتأكد أن الثورة المعرفية ينبغي أن تبدأ قبل ثورة تجديد الفكر الديني أو تكون على الأقل مصاحبة لها، حتى يمكن المواطنين التمييز بين الحجج الزائفة والحجج الصحيحة.
باحث مصري
|