حسب التقرير الأوّلي الذي نشره مؤخراً فريق العمل التابع للأمم المتحدة المكلّف بدراسة ظاهرة تصدير المقاتلين، تحتلّ تونس موقعاً متقدّماً بين مصدّري الإرهاب في العالم. فالتقرير قدّر عدد التونسيين المنتشرين في مختلف بؤر التوتر في العالم بحوالى 5800 شخص، أغلبهم في سورية (4000 مقاتل) والعراق وليبيا.
وفي جلسة استماع في البرلمان التونسي بعد عملية سوسة الإرهابية، أعلن رئيس الحكومة أن السلطات الأمنية منعت حوالى 15 ألف شاب من السفر للاشتباه بالتحاقهم بشبكات جهادية. أما وزارة الداخلية فأوقفت حوالى 8000 شخص مشتبه بعلاقاتهم بشبكات إرهابية خلال السنة الحالية، وحققت مع أكثر من 600 من العائدين من الجهاديين. ويلاحظ أن أغلب أولئك وهؤلاء سيطلق سراحهم لاحقاً لصعوبة إدانتهم قضائياً، إذ السفر أو محاولة السفر إلى الخارج لا يعدّان جريمة، كما يصعب إثبات النشاطات الإرهابية للعائدين.
هذه المعطيات المخيفة، في بلد كنّا نأمل أن يصدّر الديموقراطية لا الإرهاب، تدفع إلى بعض الملاحظات.
أولاً، يؤكد التقرير الأممي على أنّ تصدير المقاتلين لئن كان قديماً فإنه شهد انتقالاً نوعياً بعد الثورة، ويتفادى الدخول في تحديد المسؤولية السياسية عن ذلك. بيد أنّ من المهمّ أن يثير التونسيون هذه المسألة بغاية الفهم وليس للتشفي. لقد وجد إرهابيون تونسيون في الخارج منذ عقود، ولنتذكر مثلاً أن منفذ عملية اغتيال أحمد شاه مسعود عام 2001 كان تونسياً. لكن ظاهرة السفر للجهاد استفحلت بعد الثورة لأن أطرافاً عدة بعضها في السلطة شجعتها، من دون تفكير في العواقب الوخيمة لعودة هؤلاء بعد نهاية «مهماتهم» الجهادية في الخارج. كيف غابت هذه العواقب عن أحزاب وشخصيات تعرف جيداً ما حصل بعد نهاية «الجهاد» في أفغانستان، وما حصل في الجزائر المجاورة في التسعينات نتيجة ذلك؟
ثانياً، يشير التقرير إلى أنّ أعمار المقاتلين تتراوح بين 18 و35 سنة. أي أنهم من الجيل الذي لم يعرف إلاّ العهد السابق والسياسة التعليمية والثقافية والدينية لبن علي. وهذا العهد حدّ من الإرهاب وتداعياته على الاقتصاد في أشدّ الفترات عسراً (أحداث الجزائر في التسعينات ثم موجة الإرهاب العالمية بين 2001 و2005)، لكنه لم يجتث فكرة الإرهاب من عقول بعض الشبان، لأنه اقتصر على المعالجات الأمنية. وكانت القضايا الإقليمية والعالمية تُعرض بطريقة مخلّة تخلط مقاومة الهيمنة بتمجيد الإرهاب، فكأن الإرهاب كان جائزاً ما لم يكن متعلقاً بتونس. وكان النظام يشجع هذا المنحى للتنفيس عن النقمة وتوجيهها إلى الغرب بدل الداخل، وفي الآن ذاته يضرب بيد من حديد كل شاب يتحوّل من الفكرة إلى التنفيذ، أو يفكر في تطبيق مبدأ الجهاد على الأراضي التونسية. فسياسة العهد السابق كانت «فصامية» بامتياز، فلما غابت القبضة الحديد بسبب الثورة، أصبح ميسوراً لبعض الشبان ما كانوا مقتنعين به قبل فترة طويلة.
ثالثاً، يثمن التقرير الأممي جهود الحكومة الحالية في مكافحة الإرهاب ويدعوها إلى إدراجها في الإطار الذي رسمه القرار الأممي 2178 (الصادر في 09/2014)، لا سيما الالتزام بحقوق الإنسان والتعاون الدولي في تبادل المعلومات والخبرات المتصلة بالإرهاب، إلاّ أنه ينتهي إلى أنّ السلطات التونسية لا تملك استراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب ولا خطة عمل للتصدّي لظاهرة المقاتلين في الخارج. وهذا أمر يقرّ به رئيس الحكومة الذي يستعدّ لإطلاق مبادرة مؤتمر وطني لمكافحة الإرهاب، يتوقّع انعقاده خريف 2015، ويهدف إلى الخروج بضوابط وطنية مجمع عليها تمثل أسس الاستراتيجية المطلوب توفيرها. ويُستحسن أن لا تكون هذه الاستراتيجية جمعاً بين رؤيتين خاطئتين، واحدة تحنّ إلى سياسة العهد السابق وثانية تكرّر أخطاء حكم «النهضة». فرئيس الحكومة، وهو مهندس الائتلاف بين «النداء» و «النهضة»، عليه أن يقطع معهما في هذا الميدان تحديداً، وإن كان الائتلاف مفيداً في ميادين أخرى كثيرة. وينبغي أن يحذر رئيس الحكومة إغراء العودة إلى سياسة العصا الغليظة، ليس فقط لأنها تتعارض مع أحكام الدستور ومقتضيات الحكم الديموقراطي، ولكن أيضاً لأنها أصبحت مستحيلة التطبيق في ظلّ الضعف الهيكلي لأجهزة الدولة الذي سيستمرّ سنوات طويلة. وأخطر ما في هذه السياسة أنها تشعر شبان الأحياء الفقيرة والمناطق المحرومة بأنهم المستهدَفون، وتجعلهم لقمة سائغة للشبكات الإرهابية.
وعلى رئيس الحكومة أن يحذر الدعاية القائلة بأن استفحال الإرهاب في تونس سببه منع حركات الإسلام السياسي في العهد السابق، أو ربما إيقاف التعليم الديني التقليدي في عهد بورقيبة، فالعالم الإسلامي كلّه مؤسسات دينية تقليدية وأحزاب دينية، ولم يمنع ذلك انتشار الإرهاب في كلّ أصقاعه، وها أن مصر تتمتع بسلطة الأزهر الدينية، وكان لها 88 نائباً من الإخوان المسلمين في البرلمان في عهد حسني مبارك، فلم يمنع ذلك استفحال الإرهاب.
فالظاهرة الإرهابية تستفحل بسبب غياب الديموقراطية والعدالة الاجتماعية، وليس بسبب غياب أحزاب دينية أو مؤسسات شرعية، ومن غير المفيد تأجيج المجادلات حول التأويلات الدينية، فالفيصل ينبغي أن يكون القانون وليس الحقيقة الدينية التي تظل محلّ تنازع البشر. وأحزاب الإسلام السياسي أحزاب سياسية كغيرها وليس من مشمولاتها تقديم الدين الصحيح للمواطنين.
رابعاً، على السلطات أن تراعي الرأي العام وتسلك سياسة متوازنة في المجال الديني. فمثلاً، ليس صائباً إغلاق بعض المساجد بسبب سيطرة متطرفين عليها وترك قنوات تلفزيونية تبثّ خلال شهر رمضان برامج مستفزة للمشاعر الدينية للناس. على الحكومة ألاّ تغترّ بنصائح بعض العلمانيين التــقليديين الذين تعميهم الأيديولوجيا عن فهم الوقائع وتقييم المخاطر. فمراعاة الرأي العام جزء من السياسية الديموقراطية في أي بلد من العالم وضرورة تفرضها المواطنة، وهي أيضاً حاجة أمنية ملحة كي لا تتعمق الهوّة بين فئات الشعب وأنماط سلوكه الديني، بما يسهّل للحركات المتشددة استقطاب جزء من الناس وتحويلهم إلى مشاريعها.
إذا أراد رئيس الحكومة أن ينجح في وضع استراتيجية وطنية ضدّ الإرهاب، فلينفتح على مقاربات جديدة، ولينصت إلى آراء مختلفة. أما إذا بقي أسير حليفيه في الحكم فقد يتحوّل المؤتمر المقبل إلى مجرّد عملية دعائية لن تسمن ولن تغني من جوع. |