بالسخرية استقبلت غالبية النشطاء السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي خبر تشكيل جيش للعشائر قوامه 15 ألف مقاتل. مبعث السخرية الأكثر مرارة قد يكون المقارنة بين مُثل المواطنة التي يؤمن بها هؤلاء والواقع الذي يسير في الاتجاه المعاكس. مبعثها الآخر الاعتياد على رؤية سورية كدولة، أو على الأقل كمشروع دولة يمكن البناء عليه. فالثورة في تطلعاتها الأولى اعتبرت الوطن معطى لا جدال فيه، كانت ثورة من أجل المواطنة. الوقائع لاحقاً أثبتت خطأ الثورة، وأظهرت أن المجاز المسمى سورية لم يعد قائماً في الواقع سوى على السلطة التي أتت على الضد منها.
في المقابل، ينبغي ألا نستهين بحجم الاختلاط المتزايد بين السوريين بعد الاستقلال، وحتى في الحقبة الأسدية، مع الانتباه إلى التمييز بين المسيرة الطبيعية للاختلاط ومفهوم الانصهار الوطني. من مميزات الانصهار الوطني نمو علاقات ومصالح اجتماعية مستدامة، وإذا نظرنا إلى الدولة بوصفها مركزاً، فواحدة من الميزات هي ثراء التشابكات المحيطية، ربما بدءاً من الأقرب إلى المركز. في دولة البعث، والحقبة الأسدية الأطول، كانت علاقة الجميع مع الجميع تمر عبر المركز، على ندرة العلاقة، والسائد هو علاقة الجميع مع «السيد»، فلا مصالح ذات شأن يمكن نسجها بمعزل عن السلطة، ومن غير المسموح بوجودها أصلاً.
كان معتاداً، مثلاً، سعي الأجهزة الأمنية إلى عدم قيام أي نوع من التعاون بين المعارضين العرب والأكراد، ورعايتها الاحتقان الموجود بين العشائر العربية ونظيراتها الكردية في منطقة الجزيرة. الأمر لم يكن يتعلق دائماً بالاضطهاد لأسباب قومية، ففي الجنوب سنرى النظام يعزز العداء بين دروز السويداء وجيرانهم البدو، وفي القدموس ومصياف سنراه يفاقم العداء بين الإسماعيليين والعلويين. في شرق البلاد تعامل مع واقعة وجود العشائر، وتنازعها على الأراضي والمراعي، على نحو يديم النزاعات، ويبقيه حَكَماً بينها. أما إزاء وجود الطوائف المسيحية وإلى حد ما الدروز، الذين يتمتعون بوضع خاص في قوانين الأحوال الشخصية والإرث، فأوحى دائماً بأن الوضعية القانونية الخاصة غير كافية لحمايتهم ما لم تكن مقرونة بعلاقة مباشرة مع رأس النظام ورؤوس القيادات الأمنية.
في المجمل يبدو توصيف «سورية الأسد» أقرب إلى ما كان يحدث من «سورية» غير المسموح بها. هذا لا يعني مطلقاً الحفاظ على البنيتين الطائفية والعشائرية كما هما، بل كان يعني اختراقهما وإفسادهما لمصلحة النظام، مع السعي إلى الإبقاء عليهما كبنية معادية، أو حذرة جداً، إزاء السوريين الآخرين. لقد استولى النظام فعلياً على جزء كبير من سلطة الزعامات الروحية والعشائرية، إنما إلى الحد الذي يضمن به ولاءهم، لا إلى الحد الذي ينذر بتبديد سلطاتهم وجماعاتهم.
منع الحراك السلمي، ومواجهته بالعنف، في مستهل الثورة، استكمال لمنع الأفراد والجماعات السورية من الانتظام خارج المركز. الأفراد، الأمر الذي سيثبت مع الوقت، سيكونون الأكثر تضرراً، لأنهم الأعجز عن الانخراط ضمن منطق الحرب. ليس بلا دلالة هنا ضعف وفشل الثورة في بلورة جناح عسكري لها، فما لم يكن متاحاً انتظامه في حراك سياسي سابق يصعب انتظامه في بنية عسكرية تتطلب انضباطاً أشد. التجربة الوحيدة المختلفة هي تجربة الأكراد، لأنها تمايزت مبكراً كتجربة قومية، ومن دون أن نبخسها حقها من الدأب لم تتعرض للسحق التام أسوة بما تعرضت له تنظيمات المعارضة العربية في السبعينات والثمانينات.
أربع سنوات من حرب الإبادة المنهجية، نتيجتها لا تتلخص بأعداد القتلى وكمية الدمار وملايين المهجرين فحسب. ثمة أيضاً التأقلم مع الحرب التي لا تخمين لموعد انتهائها، ما لم يكن متاحاً تحت سلطة النظام من تشابك في العلاقات المحيطية هو اليوم أبعد منالاً، مع فارق انعدام وجود المركز بالنسبة لما يقارب ثلاثة أرباع البلاد. تقطيع أوصال البلد عسكرياً أوجد تباينات شاسعة تكفي لطمس ذلك الماضي الذي لم يكن مشتركاً إلا في ظاهره، التباينات لا تتعلق فقط بالانقسام بين معسكري النظام والمعارضة، هي أيضاً ضمن كل معسكر على حدة.
ولئن بدأ التمايز في معسكر النظام بحزب كردي تربطه صلات جيدة، به فقد أخذ يتسع بتنسيق الحزب نفسه مع قوات التحالف الدولي ضد «داعش»، وراحت بوادره تظهر جنوباً من خلال ظاهرة «شيوخ الكرامة» في محافظة السويداء. في معسكر «المعارضة» يتبين مع مرور الوقت أن الأيديولوجية الدينية «السنية» غير كافية وحدها للملمة شتات المختلفين. ففي حين يسيطر المتشددون شمالاً، لا يستطيع المعتدلون التقدم من جبهة الجنوب، فيما بينهما جزر محاصرة لمقاتلين محليين أو لأمراء حرب على شاكلة إمارة زهران علوش.
إذاً، لن يكون مستجداً يدعو للاستغراب تقدّمُ العشائر لتحتل موقعاً ضمن هذه اللوحة، هي الموجودة أصلاً في حقبة البعث وما قبلها، وقد يجادل بعضها بأن رقعة امتداده تفوق العديد من أماكن سيطرة تشكيلات عسكرية أساسية، وقد يجادل بعضها الآخر بأن روابطه أقدم من الروابط المذهبية المنتعشة مؤخراً. مرة أخرى، ما لم يجرِ تفكيكه في أيام السلم بسبب منع السياسة سيكون الأقدر على الانتظام في زمن الحرب، بل سيكون الرد شبه الوحيد الممكن على غياب السياسة مجدداً وعلى غياب الحد الأدنى من النظام، أي رداً على التفسخ الشامل لجثة البلاد.
مع الحديث عن تشكيل جيش للعشائر، برز طرح آخر مفاده اعتماد الليرة التركية بدل السورية في الشمال «المحرر». الذين استنكروا الطرح هم أنفسهم الذين لا يزالون يتمسكون بحلم سورية الموحدة، وعلى رغم صعوبة تنفيذ هذا الطرح إلا أنه يكشف بأمانة أن العملة السورية لم تعد تجمع المصالح المتباعدة لمختلف الشعوب السورية. جدير بالذكر أن الليرة اللبنانية فقدت رمزيتها، وليس قيمتها الشرائية فقط، مع الحرب الأهلية، وبسبب استمرار مقومات الحرب الأهلية لم تسترجعها وبقي الدولار أشبه بعملة وطنية أخرى.
عطفاً على عنوان كتاب حازم صاغيّة وبيسان الشيخ «شعوب الشعب اللبناني»، قد نكون مع موعد انتعاش الشعوب السورية. ذلك يجعل الثورة بحكم المجاز الذي افترق عنه الواقع بعيداً جداً، لكنه قد لا يكون شراً مطلقاً إذا أدركت هذه الشعوب عجزها عن تغيير «نقمة» الجغرافيا. |