تعترف القيادات السياسية في لبنان بأن المنطقة العربية، وخصوصاً المحيطة به، تمر في أخطار كبيرة تهدد مصير دولها بالتفكك الجغرافي، والإنهيار الإقتصادي. لذا تكثر الدعوات في لبنان إلى التهدئة، والتماسك الوطني، والتعالي عن المصالح الشخصية والطائفية الضيقة، والوقوف الى جانب الجيش والقوى العسكرية الوطنية، والحوار الإيجابي بين زعماء الطوائف المتناحرة لمواجهة الأخطار المحدقة بلبنان واللبنانيين، وعدم الإحتكام إلى الشارع لتحقيق مكاسب شخصية أو طائفية لأن الشوارع الأخرى جاهزة للرد على التحرك الطائفي بتحرك مماثل يتحول لاحقا من احتجاج مطلبي سلمي إلى صدام دموي.
تؤكد هذه اللوحة السوداوية أن النظام السياسي الطائفي في لبنان بات أسير الحوارات المملة بهدف تهدئة النزاعات الطائفية ومنع إنفجارها في الشارع.
المأزق البنيوي هذا ما قامت به القيادات السياسية اللبنانية طوال العقود الماضية لتثبيت هيمنتها السياسية على جماهير طوائفها أولا، والإمساك بكل مؤسسات النظام السياسي وصولاً إلى شل الحياة السياسية منعاً لإنهيار النظام القائم الذي يشهد اليوم مأزقاً بنيوياً يصعب الخروج منه، من دون إدخال تعديلات جذرية تطال ركائزه السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية مجتمعة.
فالركود السياسي عبر اصطفافات داخلية وإقليمية متنافرة لا يحمي لبنان من أخطار التفكك والإنهيار. كما أن استهلاك الوقت في حوارات شكلية لتأخير الإنفجار، وانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا، أصابا مؤسسات الدولة اللبنانية بالشلل شبه الكامل، مما دفع بعض القوى السياسية لإختبار الشارع الطائفي مساحة لتحقيق مكاسب سياسية ذات أبعاد طائفية.
بيد أن توقيع الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران يعيد الأمور إلى مسارها الطبيعي. إذ بات الإتفاق النووي حقيقة واقعية تعقبها وفود تجارية لدول كثيرة تتجه نحو إيران لتوقيع إتفاقات التعاون الإقتصادي، والإستثمار المالي المتبادل. وبدأت الدراسات العلمية الرصينة تشير إلى تغيير مرتقب في التحالفات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وتغيير ملحوظ فيها من حيث الإعتراف بمناطق حكم ذاتي لبعض القوميات، وبخاصة القومية الكردية، والبحث عن حلول سياسية لمشكلات النزاعات الدموية في بعض الدول العربية. فالتوافق السلمي على قضية شائكة كالسلاح النووي بين "الشيطان الأكبر" ودولة مارقة في "محور الشر"، يؤسس لمرحلة جديدة تلعب فيها الولايات المتحدة وإيران دور التهدئة لإنقاذ هذه المنطقة من أخطار حرب مدمرة تهدد السلام العالمي. فأين قادة لبنان وزعماء طوائفه وأحزابه السياسية من هذه التبدلات الجيو- سياسية المرتقبة في منطقة الشرق الأوسط؟
زعماء الطوائف في لبنان منشغلون اليوم بالحوارات الشكلية على قاعدة "مكانك راوح"، ويتفرجون على النضال عبر الشارع لتحقيق مكاسب طائفية لم تتحق منذ إعلان إتفاق الطائف. هم يدركون جيداً أن الاوضاع السياسية والأمنية قد انعكست سلبا على اقتصاد لبنان، ونظامه السياسي، ودوره الإقليمي. وقد حذرت المؤسسات الإقتصادية من أخطار الإنهيار الإقتصادي. فالشراكة بين القطاعين العام والخاص تكاد تكون معدومة بسبب الشلل الذي تعانيه مؤسسات الدولة. اللافت أنه على رغم الظروف الصعبة التي يمر فيها الاقتصاد اللبناني، يرى رئيس جمعية المصارف جوزف طربيه، أن لبنان في مأمن من الإنهيار الإقتصادي، وأنه حقق نمواً إيجابياً، وأن رساميل تتدفق إليه من المغتربين اللبنانيين تقارب سبعة مليارات ونصف المليار دولار سنوياً، مؤكداً متانة القطاع المالي والمصرفي الذي بلغت حصته نحو 55 في المئة من إجمالي الدين العام البالغ نحو 70 مليار دولار في نهاية أيار 2015. على رغم بعض نقاط التشابه بين الوضع الإقتصادي الحالي في كل من لبنان واليونان، يستبعد طربيه أي تأثير لأزمة اليونان على وضع لبنان الإقتصادي.
دلالة ذلك أن زعماء الطوائف وأصحاب البنوك في لبنان مرتاحون للحوار غير المجدي بين الأحزاب السياسية، وغياب رئيس الجمهورية، وشلل مجلس النواب، والأداء الضعيف لحكومة المصلحة الوطنية، وتدفق أموال المغتربين، وكثرة القروض التي ينال منها القطاع المصرفي حصة الأسد ويدفع فوائدها اللبنانيون من دون أن يوظف جزء يسير منها في القطاعات المنتجة. وهم مجندون لجمع شمل القيادات السياسية والإقتصادية لمنع النزول إلى الشارع المحتقن طائفيا والمصاب بكسل مزمن في الدفاع عن مصالحه المعيشية.
أربعة أسباب للانفجار تكثر التنظيرات السياسية حول ضرورة تطبيق جميع بنود الطائف بعد تجاهل دام ربع قرن. فإنجاز صيغة جديدة مطوّرة لإتفاق الطائف، أو إطلاق مشروع تأسيسي لبناء لبنان الغد، دونه عقبات كبيرة في طليعتها زعماء الطوائف والشوارع الطائفية المستنفرة للدفاع عن مغانم زعماء الطوائف. أما قضايا اللبنانيين الإجتماعية والإقتصادية والتربوية والحياتية فمهملة بالكامل، بعدما منع حيتان المال النضال المطلبي الرائع في الشوارع بقيادة هيئة التنسيق النقابية طوال ثلاث سنوات من تحقيق مكاسب تذكر، كما أجبروا رئيس وزراء اليونان على العودة مكسورا إلى وطنه المهدد بالإذلال عبر المزيد من الأزمات التي قد تقود إلى إنفجار شعبي في اليونان ولبنان، وذلك لأسباب عدة ابرزها:
أولا: لا يمكن الإستمرار في تجاهل قضايا المواطنين الأساسية أو تغييبها خلف مطالبات طائفية غير قابلة للتحقيق، أو عبر حوارات شكلية عقيمة بين القادة السياسيين، أو عبر شوارع الطوائف المتفجرة.
ثانيا: أعرب أعضاء برلمان الشباب عن إحباطهم لعدم تطبيق القوانين بالشكل المناسب، وشددوا على ضرورة حل مشكلة البطالة والهجرة بسبب النقص في فرص العمل بعد التخرج، وعدم المساواة بين الجنسين، وارتفاع الاقساط في الجامعات، وتهميش القوى الشبابية. وتحددت أولويات الشباب بالتركيز على إصلاح الملف التربوي، وتأمين التوجيه المهني، واستعادة مجالس الطلبة في الجامعات وتمثيلهم على أسس ديموقراطية، وتفعيل مشاركتهم في صنع القرارات الوطنية.
ثالثا: بات واضحا أن نجاح السلم الاهلي في لبنان صعب التحقيق عبر سياسة النأي بالنفس أو تحييد لبنان عن التبدلات الاقليمية المتسارعة. فهناك مشاريع جيو- سياسية على طريق التبلور، وهي تطال وجود لبنان ودوره الإقليمي الذي لا يمكن أن يبنى إلا بتضامن اللبنانيين على إختلاف طوائفهم ومناطقهم واتجاهاتهم السياسية. ذلك يتطلب تبديد الأوهام التي يروّج لها بعض زعماء الطوائف حول مدى استفادة طوائف معينة من تلك التبدلات. فلا بقاء للبنان وطناً حراً مستقلاً، ولا إمتياز لأيّ طائفة من طوائفه في تلك المشاريع.
رابعا: حذّر عقلاء اللبنانيين من أخطار تجييش الطوائف في ظروف اقتصادية واجتماعية تهدد لبنان بكوارث مدمرة. كما حذّروا من الوهم السائد بأن لبنان تحميه مظلة دولية تبدو عاجزة عن فهم تصرفات بعض زعماء الطوائف اللبنانية ومواقفهم غير العقلانية التي تتجاهل حقوق المواطنين اللبنانيين وتدافع فقط عن مصالحهم الشخصية. ولم يأخذوا الدروس من سقوط بعض الأنظمة العربية، ودخول اليونان مرحلة الإفلاس بسبب جشع أصحاب البنوك والشركات الإحتكارية، وتغييب حقوق المواطنين. فسياسة زعماء الطوائف في لبنان لا تقل بشاعة عن سياسة قادة اليونان الذين أوصلوها إلى الإفلاس والإذلال القسري لإبقائها ضمن مجموعة الأورو. وهي تدمر حياة اللبنانيين، وتنسف ركائز الإستقرار الاجتماعي فيه خدمة لزعماء الطوائف، واصحاب البنوك والشركات الإحتكارية.
في الآونة الأخيرة، زادت أخطار تلك السياسة على اللبنانيين. فهناك محاولات متكررة لإستخدام الشارع، والعبث بأمن اللبنانيين تحت ستار إعادة التوازن إلى نظام طائفي مولّد للأزمات. وقد بات عصيا على الإصلاح، وساهم في توليد نزاعات طائفية واجتماعية لا حصر لها. بيد أن الغالبية الساحقة من اللبنانيين لا تزال تنتظر عودة العقلانية إلى السياسة اللبنانية. وهي ترفض تدمير الوطن تحت ستار المحافظة على توازنات طوائفية في داخله. فالعيش المشترك في لبنان لا يصان عبر التوازنات الطائفية، التي تواجه التطرف الطائفي بتطرف مماثل يدمر الوطن. تالياً، لا بديل من التضامن الوطني والتصدي لكل اشكال التطرف الديني والسياسي، وبناء دولة القانون والمؤسسات، ومحاربة الفكر التكفيري الذي يقود إلى الدمار الشامل. على رغم سحب الدعوة الى الفيديرالية من التداول وإبدالها بالدعوة الى انتخابات نيابية تسبق انتخابات الرئاسة تحت ستار عدم شرعية مجلس النواب الممدد لنفسه في انتخابات رئاسية من دون تسوية وطنية، لا بد من تجاوز الخطاب السياسي القائم على لهجة طائفية منفرة. الأخطر من ذلك أن أركان النظام السياسي لا يخططون معا لمعالجة الأزمة اللبنانية، كل من موقعه، بل يتبادلون التهم بالتعطيل. علماً أن المحصلة العامة لتلك التهم صحيحة بالكامل. فجميعهم يساهمون في التعطيل، كل من منظور مصلحته الشخصية والطائفية الضيقة.
أخطار التأجيل... نخلص إلى القول أن حل الأزمة السياسية في لبنان لم يعد يحتمل التأجيل بعد طغيان الهاجس الإقتصادي، وتخوف اللبنانيين من البطالة، والمجاعة، والركود، والشلل في مؤسسات الدولة وفي القطاعات الإنتاجية والثقافية. ولا بد من إيجاد حلول عقلانية وطويلة الأمد لحماية لبنان واللبنانيين من أخطار تكرار النموذج اليوناني. فالأزمة اللبنانية تجاوزت سقف الانتخابات الرئاسية التي تراجعت إلى الحدود الدنيا لتدخل مرحلة السجال المتبادل على خلفية المشاركة الطائفية، وحقوق كل طائفية ممثلة بزعيمها الأول أو الأوحد. وبات لبنان أمام مفترق طرق. فالمسار السياسي السلمي الذي يمنع انفجار الأزمة يتطلب عقلنة الخطاب السياسي لزعماء الطوائف والبحث العملي عن حلول جذرية وعقلانية. المسار الطائفي الذي اعتاده اللبنانيون منذ عقود طويلة يقود إلى الصراع عبر الشوارع الطائفية المدمرة، فيدفع اللبنانيون الثمن غاليا لمراهنة زعمائهم على تدخلات إقليمية ودولية تعيدهم إلى الإستقرار القسري، وممارسة السلم الأهلي البارد في انتظار تبدلات إقليمية ودولية جديدة يتوهمون أنها قادرة على منحهم مواقع متقدمة في النظام السياسي الطائفي اللبناني.
... وسبل الخلاص ختاما، لم يعد في الإمكان اعتماد صيغة توفيقية تلفيقية عبر إصلاحات دستورية شكلية، تعيد النظر في بعض بنود اتفاق الطائف، والتوافق على نظام إنتخابي لا يعيد السلطة إلى الشعب بل يفتح الباب أمام مساومات طائفية تبقي الصيغة التقليدية التي تنجب مجددا زعماء للطوائف المتناحرة وتمعن في تحويل الرعايا إلى أزلام ومحاسيب وليس زعماء على مستوى حماية الوطن والمواطنين. وما لم يسارع اللبنانيون إلى ممارسة الضغط على زعماء الطوائف لإدخال تعديلات جذرية في بنية النظام السياسي اللبناني على أسس غير طائفية، فإن جميع التوقعات تشير الى ان لبنان مقبل على انفجار كبير. فزعماء الطوائف يمارسون سياسة إمرار الوقت في انتظار تبدلات إقليمية تستفيد منها قيادات سياسية لبنانية دون أخرى. بيد أن استمرار الجمود السياسي الحالي لم يعد ممكنا لفترة أطول. وما لم يتم تبني المسار السياسي السلمي طوعا، وبمشاركة صادقة من الزعماء اللبنانيين، فإن التصعيد السياسي عبر الشوارع المأزومة طائفياً سيقود حتما إلى صدامات دموية مدمرة قد تستمر طويلاً قبل أن تعيد قوى إقليمية ودولية التوافق الشكلي في ما بينهم. لقد خرج زعماء العرب من دائرة الفعل التاريخي وأدخلوا دولهم، الكبيرة منها والصغيرة، في مشاريع إقليمية ودولية همّشت جميع القيادات العربية، ومعهم جميع زعماء الطوائف في لبنان. |