كثرت التقديرات التي تتحدث عن تقسيم سورية إلى كيانات عرقية أو مذهبية، وتعددت زوايا النظر بين من يربط ذلك بمخطط خارجي، إيراني روسي بخاصة، لاعتبارات تتعلق بالمصالح. هكذا تبحث إيران عن بقاء طرق تزويد «حزب الله» بالأسلحة سالكة ما يدفعها إلى تأييد إقامة دويلة علوية في الساحل تتصل بلبنان عبر أراضي محافظة حمص، ورغبة روسيا الاحتفاظ بقاعدة طرطوس بعد أن حولتها من مجرد ورشة تموين إلى قاعدة عسكرية فعلية، وبين من يربط العملية بالأمر الواقع الذي ترتب على الصراع بقواه المتعددة وداعميه المتعددي الأهداف والمصالح.
وكان المشترك في كل هذه التقديرات أن الحرب الأهلية التي انفجرت وتمددت وتعمقت شكلت منصة للإطلاق على الدولة السورية ووحدتها أرضاً وشعباً.
والحرب الأهلية كحاضنة للانقسام العمودي بين أبناء الشعب الواحد ليست جديدة. فقد سبق طرحها، وفق ما ذكره موشيه شاريت في مذكراته، في اجتماع عقد يوم 27/2/1954 ضم كلاً من موشيه شاريت وبن غوريون واسحق لافون وموشيه دايان لمناقشة خطة وضعها بن غوريون وأتباعه لإقامة دولة مارونية في لبنان تبدأ بتفجير حرب أهلية ممولة إسرائيلياً لإحداث شرخ في الاندماج الوطني وخلق قطيعة نفسية بين أبناء الشعب الواحد تقود إلى المفاصلة وتشكيل كيان ماروني.
وقد عادت إسرائيل إلى فكرة الدويلات الدينية أو المذهبية لإضفاء الشرعية على نفسها، كدولة قائمة على أساس ديني، وكذلك إضعاف دول الجوار عبر تفتيتها إلى دويلات دينية ومذهبية متصارعة. ففي دراسة إسرائيلية كتبها يديد ينون تحت عنوان «إستراتيجية لإسرائيل في الثمانينات»، اعتبر سلطات الأمر الواقع التي فرزتها الحرب الأهلية في لبنان خريطة للبنان الجديد المكون من خمسة كانتونات، ورأى فيها نموذجاً لتفتيت دول المشرق العربي إلى أقاليم ذات طابع ديني أو مذهبي، وعليه سوف تظهر في سورية دويلة علوية على الساحل، ودويلة سنية في دمشق، ودويلة سنية ثانية في حلب، معادية لدويلة دمشق، ودويلة للدروز في الجولان وحوران، وكذلك تفتيت العراق إلى دويلات شيعية وسنية وكردية، وهكذا في دول الخليج.
واضح أن الفكرة تنطلق من استثمار حالة التعدد الديني والمذهبي والاثني، فبحسب الكاتب: «جميع الدول العربية الموجودة إلى الشرق من إسرائيل مقسمة ومفككة من الداخل»، و «سورية لا تختلف اختلافاً جوهرياً عن دولة لبنان الطائفية باستثناء النظام العسكري القوي الذي يحكمها، ولكن الحرب الداخلية اليوم (يشير إلى الصراع الذي انفجر في الثمانينات بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين) بين الغالبية السنيّة والأقلية الحاكمة من الشيعة العلويين، الذين يشكلون 12 في المئة من عدد السكان، تدل على مدى خطورة المشكلة الداخلية».
هنا يمكن إضافة ما أحدثته التطورات التقنية العاصفة في النصف الثاني من القرن العشرين في العالم، إذ وحدته من الخارج وذررته من الداخل، بسبب وعي القوميات والاثنيات والجماعات الدينية بتميزها ومطالبتها بالاعتراف بهذا التميز ومنحها معادلاً سياسياً له (درس الظاهرة زبيغنيو بريجنسكي في كتابه «أميركا في العصر التكنتروني»).
لقد ترتب التفكك الداخلي في الحضارة الإسلامية على جملة عوامل أولها تحول الاجتهادات الفقهية إلى مذاهب وانفجار الصراع بينها على خلفية ادعاء كل منها امتلاك الحقيقة، ودخول السلطة على خط الصراع عبر تبني موقف مذهب معين، السني في الخلافتين الأموية والعباسية، والاسماعيلي في الخلافة الفاطمية، والسني في السلطنة العثمانية، والشيعي في الدولة الصفوية... الخ، وحظر وملاحقة المذاهب الأخرى، وبخاصة تلك التي اعتبرت منحرفة أو خارجة على صحيح الدين، والتي باتت توصف بالأقليات كالشيعة والعلويين والدروز والاسماعيليين. وقد زاد الاحتكاك بالغرب من حدة الانقسامات في ضوء تباين المواقف من الأفكار التي وفدت مثل القومية والاشتراكية والشيوعية والليبرالية، فقد تبنتها غالبية أبناء الأقليات، كمدخل لموازنة الغالبية السنّية عبر تنظيمات من خارج النسق التقليدي، تنطوي على مساواة في الحقوق والواجبات، ورفضتها غالبية أبناء المذهب السنّي باعتبارها خروجاً على الموروث الديني والثقافي. وتكرس الانقسام وتعمق بسبب فشل الأنظمة الوطنية في معالجته عبر التعاطي مع العصر وشروطه ومتطلباته من جهة ولعب الأنظمة التسلطية، التي تسلمت السلطة بالانقلاب على الأولى، على التعدد والتباين لإضعاف المجتمع والسيطرة عليه بتكريس الفرقة والهشاشة الوطنية من جهة ثانية.
فقد بقيت الأنظمة الوطنية التي تسلمت السلطة بعد الاستقلال أسيرة تصوراتها ومفاهيمها التقليدية والخلط بين الدولة المستندة إلى الجماعة الدينية والدولة المستندة إلى الجماعة الوطنية ما جعلها أقرب إلى سلطة سنيّة منها إلى سلطة وطنية جامعة، في حين غذت الأنظمة التسلطية الانقسامات ووظفتها للاستئثار بالسلطة ولجم تطلعات المجتمع إلى الحرية والكرامة والمشاركة في صياغة القرار الوطني، باعتبارها حامية السلم الأهلي والحارس على حقوق الأقليات.
وقد عمق انخراط إيران وزجها بالميليشيات الشيعية في الصراع إلى جانب النظام وبروز الحركات السلفية ومشروعها لإقامة خلافة إسلامية وتطبيق ما تعتبره شرع الله، وتبني روسيا حماية الأقليات في الوقت الذي تقف فيه إلى جانب النظام وضد الثورة، عمق الانقسام الطائفي والهواجس والمخاوف بين أبناء المجتمع وبخاصة أبناء الأقليات الدينية والمذهبية.
لن تتراجع الانقسامات والهواجس والمخاوف ويتجه المجتمع إلى التعافي والاندماج تحت سقف وطن واحد ما لم يتحرر المجتمع من ذهنية عزل المختلف ورفضه من جهة، ومن ذهنية الحصار والتقوقع الذي تعيشه الأقليات من جهة ثانية، وهذا لن يتحقق من دون صياغة النظم السياسية وفق اعتبارات وطنية بعيداً من منطق الأكثرية والأقلية الدينية أو المذهبية أو العرقية، وبعيداً من منطق تطمين الأقليات عبر إقامة نظام محاصصة مذهبية لأنه يكرس هشاشة الدولة ويبقي انفجار الخلافات والصراعات ماثلاً ولبنان خير شاهد، وإقامة دولة وطنية حديثة ترتكز إلى الجماعة الوطنية، كأساس موضوعي للاندماج الوطني، وما لم يُصَغ عقد اجتماعي أساسه المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات والحريات العامة والخاصة يجسد وحدة المجتمع وكيانه الوطني الجامع.
* كاتب سوري
|