قبل قرن اهتزت البنية العربية بفعل اتصالها بالغرب وبالأفكار القومية التي كانت بدأت بالبلقان وتأثرت بها الحركة القومية العربية، إلا أن هذه الهزة لم تنل من الذهنية التقليدية في المشرق، فقد أسست الدول وبدأت النخب تأسيس حركات وطنية عربية بعد الثورة المصرية 1919 في محاولة لإعطاء دور جديد لمجاميع فاعلة بعيداً من رجال الدين الذين قادوا المجتمع في الزمن العثماني.
ولادة النخب الوطنية لم تكن بعيدة عن الأسر الدينية أيضاً، وقد تطورت تلك الولادة بعد حركة الإصلاح العثماني وإصدار السلطان خط شريف كلخانه عام 1839 لكن ضمن خط مستقل معارض تمثل بعائلة الكواكبي في حلب والبيطار والجزائري والقاسمي وغيرهم في دمشق، وتأسست صحافة موالية ومحابية للسلطنة مثل صحيفة «سوريا» التي صدرت عن مطبعة ولاية سوريا عام 1865 وصحيفة «الشام» التي نشرها مصطفى واصف مدير مطبعة ولاية دمشق عام 1896، وقد عمل في هذه الصحف محررون ضمن بيروقراطية الدولة. وما كادت الثورة الدستورية تنتصر بخلع السلطان عبد الحميد الثاني حتى كانت الأفكار والصحف والمطابع قد انتشرت، وساعد في انتشارها ظهور الجمعيات والأحزاب الدينية والعلمانية التي حسمت العلاقة مع السلطان واستقلّت عن دولة الخلافة، حتى إذا قامت الحرب العالمية الأولى ومن ثم الثورة العربية في حزيران (يونيو) 1916 ومن ثم إلغاء الخلافة عام 1924، أثقل رجال الحركة الوطنية القومية والإصلاحية الإسلامية الصحف والمجلات، وبخاصة المصرية، بالجدل الذي لحق إلغاء الخلافة للبحث عن بديل ومرجعية وزعامة إسلامية عربية.
آنذاك كانت حركة التعبير الأدبي والثقافي تشهد تحولاتها أيضاً، ثم ما لبثت أن بدأت حقبة الاستقلال قبيل الحرب العالمية الأولى في العراق ثم سورية فالأردن لتنتهي أخيراً بعد العام 1948 ومع النكبة بزمن جديد هو زمن الثورية العربية والانقلابات التي أفشلت كل أشكال التقدُّم الموعود منذ البيان الأول في العراق بعد انقلاب بكر صدقي، الأول عربياً، عام 1936، ثم في سورية مع انقلاب حسني الزعيم في آب (اغسطس) 1949 ثم مصر مع ثورة تموز (يوليو) 1952 ولاحقاً في ليبيا ثم اليمن، مع استثناء الحالة البورقيبية في تونس.
ومع الوقت، احتفظت السلطة بوضعيتها التقليدية في الوجدان العربي، وبقيت الإصلاحات في الأنظمة التقدمية في مستوى السطح. ومع أن مفاهيم الدولة لم تكن بعيدة عن البحث العربي المعاصر، إلا أن اللامفكر به عربياً، كان هو إمكانية حدوث ثورات شعبية، تنهي وضعية الدولة التقليدية، إذ ظلت الأنظمة العربية تجسد شرعيتها بدور الرعاية الذي مثلته، وفي احتكار العنف، وفي الاحتكار السياسي والاقتصادي لمقدرات الدول، وهو ما أدى إلى تمزق النسيج الوطني على أيدي العسكر وأترابهم.
وإذ تميز عقدا الخمسينات والستينات من القرن العشرين بشيوع الخطاب التقدمي في أدبيات الأحزاب والثوار، في مقابل وصف الملكيات وشعوبها بالرجعية والتبعية للغرب، فإن الذي تحقق من الخطاب التقدمي الثوري تمثل في تركز مفهوم الدولة التسلطية.
وما حصل عام 2011 من ثورات شعبية، يثبت عدم صحة مقولة الاستعصاء الديموقراطي الشعبي. وتؤكد الأحداث الأخيرة عربياً أن السبب في التأخّر والانسداد ليس الشعوب العربية بل أنظمتها التي أدخلتها أبواب الوعود المستعصية، فانتهكت سيادتها ووصلت بعضها إلى مرحلة العجز، فالدولة التي بنينا عليها آمالنا لتكون سلة غذاء العرب، وهي السودان، أودت بها ثورة الإنقاذ الإسلامي إلى أسوأ مصير فانشطرت إلى دولتين وربما ثلاث في ما بعد، وقد يواجه العراق الصيغة ذاتها وهي صيغة متحققة اليوم، ولكي تكون سورية الدرس الأكثر وجعاً، وفي المشهد الليبي فصول موجعة في شكل أكبر. لذلك، ما إن انكشفت عورة دول التقدميين العرب على مزيد من الفقر والجهل بعد نحو ثماني عقود على أول انقلاب عربي، حتى اهتدى الجمهور والمؤسسات الاجتماعية التقليدية إلى حقيقة عدم قيام دولة عربية بالمفهوم المعاصر، وبحسب هذا الوضع، فإن مجتمعات الدول الفاشلة سودانياً وعراقياً ويمنياً وصومالياً وليبياً ومصرياً شهدت ارتداداً للفرد العربي إلى الكيانات التقليدية التي يرى أنها توفّر له الحماية، وتحقّق له الاستقرار، وتغذّي وجوده المادّي والمعنوي، فكانت القبيلة المثالَ الواضح لذلك. في المقابل التحديثيون والليبراليون لديهم أيضاً قبائليتهم الخاصة، المسكونة بعقدة الجلوس على الطاولة بصفة التمثيل فقط، ولعل هذا ما يحدث في اليمن وحوار جنيف بين أطرافها السياسيين.
في فشل الانقلابات العربية وانتصارها، ظلت القبيلة حاضنةً للفرد، ومعها كان الفرد متمتّعاً بحريّة أكبر من الحريّة في دولته الحديثة، إضافةً إلى أنّ قيم العشيرة لا تزال حاضرة ومتجذّرة بقوّة في وجدان الفرد وممارسته، ولا تزال رافداً شبه أساسي في معاملاته السّلبية أو الإيجابيّة مثل قيم النّخوة والكرم والشّهامة، كما أنها لا تزال تشكّل ناظماً اجتماعياً للحقوق والواجبات.
إن تقبّل الإنسان العربي ثقافة القبيلة جعل هذه الثّقافة ومفاهيمها تعيش معه في الحاضرة كما في البادية أو الرّيف؛ فاعلة ومكتسحة في الدّولة الحديثة كما في زمن الترحّل والبداوة. أمّا النّسيج الاجتماعي الحالي في معظم أقطار العالم العربي فهو عبارة عن خليط تمتزج فيه قيم المدينة بقيم البداوة، وإن كانت القيم القبليّة والبداوة فاعلة أكثر، ولها وجود مضمر ونسقي يعبّر عن نفسه بوضوح في كلّ أزمة أو صراع.
الكثير من المدن العربية لا تزال مناطقَ توطّن عشائري أكثر منها مدناً حضرية. ولم يقتصر أمر التأثّر بثقافة القبيلة على الأفراد والجماعات، بل حتى الأحزاب والحركات الحديثة في العالم العربي والإسلامي، من ماركسيّة وإسلاميّة وغيرها، تأثّرت بها، بل ارتدّت إليها لتقوّي نفسها عبر المجاميع التقليديّة القديمة، مثل حركة الجهاد الأفغاني التي انقسمت قبائل متصارعة، ومثل الحزب الاشتراكي (العدني) الذي ارتدَّ إلى جذوره وصراعاته القبلية. كما أن الأحزاب في الأردن (بما فيها الإسلامية) تختار مرشحيها في الانتخابات، على أسس قبلية لضمان الوصول للبرلمان.
القبيلة إذاً هي مكوّن جذري عميق في الثّقافة الاجتماعية العربية. وهي في معظم الأقطار العربية، تستبطنها الهويّات، وتتّجه نحوها الولاءات. ويرى المرحوم خلدون النقيب أنّ ما يجعل القبيلة مقبولة ومرغوباً فيها هو أنّها «بسيطة، وعميقة منغرسة في أعمق أعماق الوجدان الإنساني، انغراساً لا يمكن معه اختزالها أو تفكيكها إلى علاقات أبسط. ولذلك يصفها عام الإجماع غيرتز Geerts بالولاءات، أو الانتماءات الوشائجية، فعندما يتعرّض المجتمع لأزمةٍ طاحنة، أو خطرٍ داهم، نعود إلى هذه الانتماءات- الولاءات الوشائجيّة، التي نجد فيها الأمان والطّمأنينة.
تتطلب قوّة الحضور المتجدّدة لثقافة القبيلة، تجدّد الاهتمام والتركيز البحثي في مسألة القبيلة. فمشكلاتنا، نحن العرب، في معظمها هي مشكلات «علاقات وأربطة»، وتشكّل جمعي أكثر ممّا هي مشكلات «ذوات»؛ فبنية العلاقات، وشبكة العلاقات الحاضرة اليوم، هي تتبع لأنماط تقليدية قديمة كانت حيويّة في السابق، وفاعلة في زمان ومكان معيّن. إدارة العلاقة بين الدولة ومكوناتها التقليدية، لا تتناقض مع دولة المواطنة، لكن المسألة الأكثر صعوبة اليوم هي تحديث العقليات التي تدير الدولة أو التي تفكر في شكل العلاقة أو التي أخفقت في مشاريعها الأيديولوجية وتجد في القبيلة هدفاً لتسديد فواتير خسائرها معها.
* كاتب أردني |