تُدرك إيران قبل غيرها أن الديموغرافيا السورية وخصائصها الطائفية ومؤدّياتها السياسية لن تسمح لها ولنظام بشار الأسد بالتحكّم بأكثر من مساحةٍ محدودة من الأرض، مُعرَّضَةٍ من دون اتّفاق سياسي للتهديد الدائم، ومضطرةٍ لاستنفار ساكنيها دورياً وجعلهم يعيشون في قلعةٍ وفي مشروعٍ حربي يُلغي كلَّ ميزةٍ استراتيجية ممكنة، ويستنزف الموازنات والمقدّرات. وتدرك إيران قبل غيرها اليوم تحديداً أن نظام الأسد يترنّح ببطءٍ في مواضع وبسرعةٍ في مواضع أُخرى، وأنه صار محكوماً في كل المواضع بتأمينها الموارد البشرية له. ذلك أنه أُنهِك وفَقدَ بحسب العديد من التقديرات قرابة المئة ألف جندي وضابط وعنصر "دفاع وطني"، أكثر من نصفهم من المتحدّرين من الطائفة العلوية. كما أن الإصابات وهجرة آلاف الشبّان من المناطق التي ما زال يسيطر عليها والرشاوى التي تُدفع لتجنّب الخدمة العسكرية تقلّص على نحو متسارع حجم الكتلة البشرية التي بمقدوره الاستمرار في تعبئتها. هذا دون البحث في التداعيات السياسية والاجتماعية لاستمرار النزيف البشري (الطائفي) وربطه من جديد بالديموغرافيا وتوازناتها. وتدرك إيران كذلك أن الموارد العسكرية والمالية التي تستمرّ وروسيا بضخّها للأسد لم تعد تكفي مع فتح جبهات جديدة أو تحريك جبهات سبق أن هدأت لأشهر طويلة. كما أن الموجات المتلاحقة من المقاتلين العراقيين والأفغان والباكستانيين الشيعة الذين دَفعت وتدفع بهم لم تعد قادرة على أكثر من حماية بعض الجبهات من احتمالات الانهيار الأسدي الكامل (جبهات حلب وبعض جبهات الغوطتين والجنوب السوري)، في حين أن ما بين ثلث ونصف قوات حزب الله صارت فوق الأراضي السورية ولا تستطيع أكثر من السيطرة المتقطّعة على المناطق المجاورة للبنان، وما إن تحتفل بنصرٍ في مدينة أو تلّة أو بلدة حتى تُستأنف المعارك في جوارها فتُعيد نغمة الكلام عن قرب النصر والاحتفال به. يُضاف الى هذا، أن سياسة إيثار خسارة مناطق لصالح "داعش" مقابل السعي للاستشراس في القتال في مناطق تتقدّم صوبها المعارضات السورية (من فصائل إسلامية الى فصائل جيش حرّ)، بهدف إرباك المواقف الإقليمية والدولية وجعل "داعش" تخلط الأوراق (وتصطدم مباشرةً بالمعارضات)، لم تعُد تجدي نفعاً إذ تضاءلت أعداد القائلين في الغرب بضرورة الاختيار بين الأسد و"داعش"، ليس لسببٍ أخلاقي (معدومٍ في اعتباراتهم أصلاً) بل لموازين قوى تبدّلت وباتت تجعل من القول بالمفاضلة المذكورة بلاهةً خالصة. ما الذي انتظرته إيران إذاً وهي ترى ملياراتها التي أُنفقت وعشرات ألوف العراقيين والأفغان والباكستانيين واللبنانيين الذين أُرسلوا للقتل والموت في سوريا يتحوّلون للدفاع عن أقلّ من ثلث المساحة السورية ويتحضّرون لخسائر إضافية فيها؟ هل هي الأيديولوجيا التي أثّرت على التحليل السياسي والعسكري، أم هو غرور القوة الذي يُفضي أحياناً الى الخسارة؟ أم أن إطالة أمد الحرب تحوّل مع الوقت الى الهدف بما لاقى السياسة الأميركية التي لم تشأ مرّةً حسماً سريعاً وما زالت تعرقل كل مسعىً لتسليح نوعيّ للمعارضات؟ يبدو أن في الجواب عناصرَ من كلّ ما ذُكر. ويبدو أيضاً أن البعض في طهران، بعد أن توهّم بإمكانية "الحسم" السريع سورياً وتأخّر ليكتشف استحالته، صار أخيراً يُراهن على "الفتح النووي" في المفاوضات مع الأميركيين ليحتفل بإنجازٍ ويُفاوض من بعده على استمرار التعاون مع واشنطن عراقياً مقابل مقايضاتٍ سورية.
وهذا إن تحقّق، فلن يُشير لغير الخسارة المريرة لطهران ولجميع حلفائها في سوريا... المأساة أن ذلك يتمّ فوق أنقاض تلك البلاد.
|