بعد ما يزيد عن أسبوع من إطلاق ثوار درعا معركة «عاصفة الجنوب»، لتحرير ما تبقى من المدينة وريفها، توقفت الأخبار عن سير المعارك، واحتلت صور الضحايا الذين قصفتهم طائرات النظام بالبراميل المتفجرة صدارة الأنباء القادمة من هناك.
الواضح أن ثوار حوران تسرعوا في إطلاق وعود التحرير، وعلى الأرجح لم يضمنوا الدعم الكافي لعاصفة الجنوب، سواء على صعيد الإمدادات الضرورية أو على صعيد استراتيجية المعركة ومبتغاها. ثمة احتمال آخر، يدلل أيضاً على عدم توفر التزام كامل، وهو أن تكون الجهات الداعمة تراجعت عن ضماناتها بعد بدء المعركة.
الصورة المتداولة عن ثوار حوران أنهم تقريباً ما تبقى مما كان يُسمى بالجيش الحر، وأنهم بعيدون عن التطرف ورافضون له، فضلاً عن تعهداتهم المستمرة بالالتزام بالعناوين الوطنية للثورة. والصورة المتداولة أيضاً عن جبهة الجنوب أنها أول من كسر شوكة الحرس الثوري وقائد فيلق القدس قاسم سليماني، عندما أشرف على المعارك هناك شخصياً في شباط (فبراير) الفائت، فمني بخسارة كبيرة وتقدم الثوار للسيطرة على بصرى، ومني أيضاً بمقتل ضابطين إيرانيين كبيرين مقربين منه.
هي صورة تنسجم عموماً مع مكانة درعا العزيزة في أوساط عريضة، بعدّها مهد الثورة السورية.
في انتظار أخبار الانتصارات السريعة القادمة من درعا ثمة عامل تنافسي مهم. فجيش الفتح المكون من فصائل إسلامية كان قد حقق انتصارات سريعة جداً أدت إلى سيطرته على كامل محافظة إدلب، ما حفّز البعض على انتظار مثيلاتها في الجنوب، وعشّم البعض الآخر بأخبار سارة لا يأتي بها إسلاميون هذه المرة. طبعاً قرب درعا الجغرافي من العاصمة يمنح الانتصارات وزناً إضافياً، وثمة قرى قليلة معدودة تفصل ثوار درعا عن غوطة دمشق الغربية طال انتظار عبورها.
من حيث النتيجة، تتضاءل الفوارق بين أن تكون جبهة حوران الأكثر انضباطاً وأن تكون الأكثر ضبطاً، مع أن تلك الفوارق هي التي تضيء على الوضع المعقد للجبهة. ثوار حوران، مثلاً، كانوا قادرين في العديد من المناسبات على قطع الطريق الدولي بين دمشق وعمان، مع ما لهذا الإجراء من أهمية معنوية بعد سيطرتهم على المنافذ الحدودية مع الأردن، لكن رغبة الحكومة الأردنية في الإبقاء على شعرة مع النظام أبقت على الطريق الدولي خارج المعركة.
معركة مطار الثعلة مثال آخر على الحدود التي تحكم مقاتلي الجبهة الجنوبية. فبعد إعلانهم العزم على تحرير المطار التابع إدارياً لمحافظة السويداء، طُويت الصفحة سريعاً تحت يافطة عدم استثارة دروز السويداء، وكأن تلك الحساسية الطائفية لم تكن في الحسبان من قبل. ربما تكون معركة المطار، والإعلان الأخير عن طريق دمشق/ عمان كمنطقة عسكرية، خروجاً عن السيناريو يستدعي لجمه من قبل الجهات الداعمة.
ما يحكم ثوار درعا ويضبطهم وجودهم في بؤرة شديدة الحساسية، فمن جهة هناك إسرائيل التي لم تحسم أمرها مع بقاء النظام أو رحيله، لكنها واضحة جداً في ما خص عدم السماح بسيطرة التطرف على حدودها. همّ التطرف الشاغل الأكبر أيضاً للإدارة الأميركية التي تضبط إمدادات الجبهة الجنوبية بالاتفاق مع الحكومة الأردنية، وأيضاً بالتلاقي مع هموم الحكومة الأردنية حيال ظاهرة التطرف، ومعلوم أن الأخيرة باتت تحت ضغط تمدد «داعش» من الجهة العراقية وتحت أرق الأردنيين الذاهبين إلى الجهاد في سورية والعراق.
الجهة الشرقية لدرعا مغلقة لاعتبارات مذهبية، وأيضاً لأن أقصى ما ستبلوره الكتلة الفاعلة ضمن مشايخ الدروز هو مفهوم الأمن الذاتي، وهو مفهوم يتأرجح تحقيقه بين الاعتماد على القوى المحلية والتعاون مع النظام. شبح «داعش» الذي يقترب من السويداء يدفع باتجاه النظام أكثر من الدفع باتجاه ملاقاة المعارضة، وإذا كان امتداد درعا يصل إلى الغوطة الغربية، فامتداد السويداء يفصل عملياً بين الغوطتين. معركة دمشق مؤجلة بقرار دولي، لذا لا يستطيع ثوار الجنوب التوجه شمالاً، وهذا أهم ما يتطلع إليه التواقون إلى سقوط النظام، خاصة لمعرفتهم بأن الحرس الثوري الإيراني وميليشيا حزب الله يضعان ثقلهما لمنع استهداف العاصمة من جهة القلمون.
ضمن الاعتبارات السابقة لا توجد أهداف ممكنة ومجدية أمام ثوار درعا سوى التوجه شمالاً إلى دمشق، وهو توجه يتطلب موافقة الإدارة الأميركية التي تضبط خط إمدادهم. ويمكن الزعم بأن الجبهة الجنوبية، بعيداً عن التغني بوطنيتها، من أكثر الجبهات خضوعاً لعامل الضبط الأميركي بحكم عدم وجود منفذ آخر لها. لكن هذا الانضباط هو نفسه ما قد ينقلب على الجبهة وداعميها، بسبب وجود القوى الإسلامية التي تتربص بها، وتنتظر أي تراجع كي تنقض عليها أسوة بما فعلته في العديد من الجبهات.
في الواقع، ما إن توقف زخم التقدم الميداني حتى بدأت تتوالى الاتهامات في حق بعض قيادات الجبهة الجنوبية، وإذا لم تقفز إنجازات جيش الفتح السريعة إلى واجهة المقارنة فهي موجودة في خلفيتها. وضمن منطق التعطش إلى الخلاص من النظام بأية طريقة لن يكون مفهوماً انصياع ثوار حوران للاعتبارات التي تحكمهم إلا على سبيل التهاون والارتهان لأجندات خارجية.
المستفيد الأول سيكون القوى الإسلامية، وفي طليعتها «داعش» و «النصرة»، إذ يُنظر إليهما كقوى لا تكترث بالاعتبارات المحلية والدولية، أو تجيد استثمارها بدل الانصياع لها. ففي حين كانت قيادة الجبهة الجنوبية تحاول التفاوض مع مشايخ السويداء لتحييد مطار الثعلة تحت إشرافهم، ارتكب أحد أمراء النصرة مجزرة في حق الدروز من أبناء قرية قلب لوزة، أما ارتهان النصرة لاعتبارات مموليها فلا يبدو ظاهراً للعيان لأن الممولين أنفسهم ليسوا ظاهرين للعيان.
إن أهم خطأ يرتكبه المتحكمون بالجبهة الجنوبية التوهم بقدرة السيطرة عليها إلى ما لا نهاية والسماح بنشاطها جزئياً وفق أجنداتهم. وبغياب الحل السياسي الذي تلوح به الإدارة الأميركية من دون أن تعمل عليه جدياً ستكون هذه هي الوصفة المجربة لخسارة القوى المعتدلة وحلول القوى المتطرفة مكانها. قد يظن المتحكمون بالحدود أن المتطرفين لن يكون لهم مكان معتبر بسبب الإمساك بمنافذ الدعم، لكن التجربة دللت على أن المعتدلين فقط يقيمون وزناً للحدود، أما المتطرفون فسرعان ما يعملون على إزالتها. |