السبت ٣٠ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: حزيران ٢٨, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
إعادة اختراع العالم! - السيد يسين
في أقل من عقدين وأعني تحديداً منذ التسعينات حتى الآن نحتاج إلى إعادة اختراع العالم! بمعنى حاجتنا إلى رسم خريطة معرفية جديدة لما يتضمنه من أطر نظرية مستحدثة لكي تساعدنا على فهم العالم الذي لا يفتأ يفاجئنا بتغيرات فجائية تقلب الموازين، وتهزم معادلات القوة الثابتة وتكشف تحت ضوء الشمس توحش الطبيعة الإنسانية (انظر إلى جرائم «داعش»)، وتبلد النظم الشمولية والسلطوية، وانتهازية النظم الديموقراطية، وسيادة الارتباك الفكري في مجال تشخيص ما يحدث، والحيرة البالغة في اتخاذ القرار على مستوى الدول وعلى مستوى الشعوب بل وعلى مستوى الأفراد!

كنت أفكر في أحوال العالم التعيس الذي نعيشه منذ أن تعولم الإرهاب وأصبحت جرائمه الدموية تملأ الأبصار على شاشات التلفزيون وفي صور الصحف المقروءة.

وحين تأملت أحوال العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 اكتشفت أن «الحرب الباردة» سرعان ما نشبت بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية وهما الدولتان اللتان تحالفتا لقهر النظام النازي بقيادة أدولف هتلر.

وكان شعار الحرب الباردة البارز هو سياسة «الاحتواء» containment وهو المصطلح الذي صكه الديبلوماسي الأميركي الشهير جورج كينان ليعبر عن ضرورة محاصرة الاتحاد السوفياتي دولياً وسياسياً وثقافياً، حتى لا يقوم بنشر الشيوعية في أرجاء العالم. وساد هذه المرحلة ما أطلق عليه توازن الرعب النووي، بمعنى أن كلاً من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة كانا يملكان القنبلة الذرية، ومن هنا صبغت عقائد عسكرية تدور حول استراتيجية استيعاب الضربة الأولى قبل توجيه ضربة قاصمة للخصم! سيناريوات افتراضية واستعدادات عسكرية أنفقت عليها ملايين الدولارات عبثاً.

ولأن كلا العملاقين أدرك خطورة الحرب الباردة، خصوصاً في مجال سباق التسلح الذي أدى إلى إنفاق ملايين الدولارات على أسلحة متطورة باستمرار ولن تستخدم أبداً، فقد اتفقتا على سياسة جديدة هي الوفاق Detente وهي كلمة بالفرنسية معناها تخفيف حدة الصراع أو أخذ راحة من تبعاته الثقيلة. وقد بدأت هذه السياسة عام 1969 في عهد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون والرئيس الذي خلفه جيرالد فورد. وقد تميزت هذه المرحلة بتوقيع معاهدات أهمها «سولت 1» واتفاقات هلسنكي، ثم بعد ذلك معاهدة «سولت 2» وذلك لتجميد الصراع بعدم استخدام الصواريخ.

هكذا، يمكن القول أن المرحلة منذ بداية الحرب الباردة وسياسة الاحتواء الأميركية حتى مرحلة الوفاق عام 1969، كانت تتسم بالثبات النسبي. بعبارة أخرى كان هناك العالم الأول ممثلاً في الولايات المتحدة والدول الرأسمالية الغربية، والعالم الثاني ممثلاً في الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الاشتراكية، والعالم الثالث والذي يضم دولاً متحالفة تسعى للتقدم في آسيا وأفريقيا والعالم العربي. غير أن العالم تغير تغيرات جوهرية بعد انهيار إمبراطورية الاتحاد السوفياتي، ما أدى إلى سقوط دول الكتلة الاشتراكية التي كانت تدور في فلكه، وما تبع ذلك من حركات انفصالية وثورات على النظم الشمولية والسلطوية.

وتحول كثير من الدول الشيوعية لتصبح دولاً ديموقراطية. بعبارة موجزة أدى هذا التطور المفاجئ الذي لم يتنبأ به أي عالم سياسي ما عدا الباحثة السياسية الفرنسية المرموقة هيلين كارير دانكوس في كتابها «انفجار الإمبراطورية، إلى انقلاب جذري في بنية النظام الدولي، وحوله من نظام ثنائي القطب إلى نظام أحادي القطب وتظهر فيه الولايات المتحدة باعتبارها القطب المهيمن الذي يحكم العالم بإرادته المنفردة، ويتخذ قرارات السلم والحرب بعيداً من المؤسسات الدولية وفي مقدمها الأمم المتحدة، كما حدث في شنه الحرب على العراق بزعم امتلاكه أسلحة دمار شامل على رغم معارضة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن.

في هذه المرحلة مثلت الولايات المتحدة دور مشرّع العالم وحامي حقوق الإنسان لدرجة أن الكونغرس أصدر قراراً يلزم فيه وزارة الخارجية الأميركية بإعداد تقرير سنوي عن أحوال حقوق الإنسان في العالم يرفع للرئيس الأميركي، لكي يوقع العقوبات المناسبة على الدول التي خرقت مواثيق حقوق الإنسان!

وكان هذا القرار نوعاً من أنواع الانتهازية السياسية الصارخة، لأنه ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الولايات المتحدة هي أخطر دولة تخرق حقوق الإنسان في العالم. وما نشر عن استخدامها التعذيب الممنهج لأسرى الإرهابيين، أو في معتقل غوانتانامو يشهد على ذلك.

غير أنه يمكن القول أن مرحلة القطب الواحد أو هيمنة الولايات المتحدة الأميركية على النظام الدولي يمكن أن توصف بأنها مرحلة الاستقرار الموقت للنظام الدولي.

لكن الآثار السلبية على القوة الأميركية، خصوصاً بعد إعلانها الحرب على أفغانستان ثم العراق أدت إلى أن تدخل الولايات المتحدة في نفق مظلم يعبر عن الانهيار التدريجي للإمبراطورية الأميركية. وبالتالي يصدق عليها القانون الذي صاغه عالم السياسة الأميركي بول كنيدي في كتابه الشهير «صعود وسقوط الدول العظمى»، حين قرر أنه إذا زادت الالتزامات المالية على أي إمبراطورية بما لا تستطيع الوفاء به فإنها تبدأ في مرحلة الأفول، والتي قد تمتد عقوداً، لكن سقوط الإمبراطورية حتمي. وليس غريباً إذاً، أن يصعد الإرهاب المعولم في مرحلة الأفول الأميركي، والذي يعني بداية مرحلة الفوضى الدولية! وهذه المرحلة تتسم بانفجار الصراعات العرقية، ونشوب الحروب المذهبية، وقيام هبات جماهيرية في العالم العربي أطلق عليها ثورات الربيع العربي، أدت إلى نتائج كارثية على كيان الدول، وتسببت بتمزيق نسيج كثير من المجتمعات العربية، والتي وإن كان بناؤها هشاً، إلا أنها كانت متماسكة تماسكاً نسبياً.

وتبدو ملامح صورة العالم الآن في دول انهارت، وحركات إرهابية صعدت، ليس ذلك فقط بل أصبحت تقيم دولاً وهمية. انظر إلى «الخلافة الإسلامية» مع «داعش»، وإلى زحف الحوثيين على الدولة اليمنية، وإلى سيطرة الميليشيات على الدولة الليبية لندرك أننا في حاجة ماسة إلى اختراع العالم من جديد!


* كاتب مصري


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة