قبل نهاية حزيران (يونيو) 2014 لم يكن الكثيرون ليصدقوا أن ينصّب أبو بكر البغدادي نفسه خليفة للمسلمين، وفي أسوأ الأحوال لم يكن متوقعاً أن تبقى دولة «داعش» وتتمدد على طرفيها العراقي والسوري، على رغم عمليات التحالف الدولي الذي يُفترض أنه يضم أربعين دولة على رأسها الولايات المتحدة.
اليوم أيضاً، وإن بدرجة أقل، يأتي إعلان «داعش» عن طرح نقود «دولة الخلافة» للتداول كأنه استكمال لما لا يزال غير قابل للتصديق، فالعملة من أهم رموز السيادة الفعلية، وأهم ما يفعله التنظيم للتحكم في المناطق الخاضعة لسيطرته والقول بأنه لم يعد فقط في وضع العصابة الخارجة على القانون الدولي.
لكن، كما نعلم أيضاً، الأخبار طوال الخط لم تكن سارة لأمراء التنظيم ومشايعيه، فـ «داعش» خسر أراضي في العراق وسورية في مقابل تلك التي كسبها، بل أصبحت العاصمة ذاتها مهددة بعد سيطرة الوحدات الكردية بالتعاون مع فصائل من الجيش الحر على تل أبيض المجاورة. إلا أن خسارة الرقة إذا حدثت، وعلى رغم ما لها من أهمية معنوية، قد لا تعدو كونها جولة من جولات الكر والفر التي يتأقلم معها التنظيم، ومن المرجح أن تصبح حلب وريفها الشمالي هدفاً لتعويض الخسائر في الشمال الشرقي طالما لم تضرب المعارك البنية الفاعلة فيه.
بالطبع لا يستقيم طرح العملة الداعشية في التداول مع كيان غير ثابت أصلاً، وأغلب الظن أن موضوع العملة سيُستخدم كرسالة إعلامية تجاه الخارج، وسيُستخدم داخلياً لمزيد من إرهاب السكان والسطو على ما تبقى من مقدراتهم الاقتصادية. الأهم على هذا الصعيد أن عدم ثبات حدود الخلافة لا يطعن فيها من وجهة النظر الداعشية. فـ «داعش» عندما أزال الحدود بين سورية والعراق وصفها بالصنم، ولئن كان لا يريد أصناماً تعيق تمدده فهو لن يكون خاضعاً لمنطق الدول التي ترسم حدوداً حالية أو حدوداً مبتغاة.
إذاً، لا يعيب «داعش» من وجهة نظر الداعشيين أن تتمدد دولتهم هنا وتتقلص هناك. الأهم هو بقاؤها، ومن شروط بقائها تلك المرونة التي لا تجعلها أسيرة حدود ومناطق يُعتبر الدفاع عنها مسألة كرامة عليا أو مسألة حياة أو موت. بمراجعة سجل «داعش» العسكري تسهل ملاحظة الاعتماد على عنصر المباغتة، المدعوم بسمعة وحشية قصوى، وباستثناء معركة كوباني من السهل ملاحظة تحسب داعش لميزان القوى وانسحابه من العديد من المناطق من دون قتال جدي، ثم توجيه مقاتليه إلى مناطق أخرى بعضها لم يكن في حسبان الخصوم.
أن تكون الخلافة متنقلة شأن تدرب عليه أعضاء التنظيم قبل إعلانها، ويزيد عليه عدم تعلق النسبة الأكبر منهم بموضوعة الأرض، لا بسبب الأيديولوجيا العابرة للحدود فحسب وإنما لقدوم نسبة كبيرة منهم من دول بعيدة من أرض الخلافة الحالية، مع ما يصاحب ذلك من نقمة على أوطانها الأصلية وعدم توطنها بعد، أو استحالة توطنها حالياً، في أرض الخلافة الموعودة.
هذه الخلافة النقالة ليست ملائمة لاعتبارات الحرب عليها فحسب، هي ملائمة بدرجة أكبر ربما للاعتبارات الجيوسياسية في المنطقة، إذ يبدو «داعش» جاهزاً لملء الفراغات التي تتيحها أنظمة أو منظمات عاجزة عن التجذر والاستقرار أيضاً. في الحالتين، السورية والعراقية، ملأ «داعش» الفراغ المتأتي من غياب أو ضعف السلطة المركزية. في الحالة السورية تحديداً، معركة «داعش» الأهم، كما أعلنها أحد قادته، أبو همام النجدي، منذ مستهل تشرين الأول (أكتوبر) 2013، هي الضغط على جميع فصائل المعارضة في المناطق المحررة ووضعها بين حجري رحى قوات النظام و»داعش» لدفعها إلى الانضواء ضمن الأخير، لكن تلك المهمة لم تكن متاحة لو تمتعت فصائل المعارضة بسيطرة على مناطقها من الأرض والجو، أي لو كان التحرير ناجزاً فعلاً. في المحصلة أثبتت رؤية النجدي صوابها النسبي بدعم حثيث من طائرات النظام.
الفراغ في الحالة العراقية معروفة أسبابه الطائفية، وهو ليس على غرار الحالة السورية، وإذا التقت أهداف النظام السوري مع «داعش» في القضاء على فصائل المعارضة فذلك لم يمنع التصادم بينهما بخاصة في المواقع ذات الجدوى الاقتصادية كحقل الشاعر النفطي. في كل الأحوال، التكهنات والوقائع التي تشير إلى مستوى ما من التنسيق بين النظام وداعش، أو حصول الأخير على تسهيلات مختلفة من دول إقليمية تبدو متناقضة المصالح كتركيا وإيران، فضلاً عن الشكوك القوية في حصوله على تمويل عربي، هذه كلها تدلل على مدى ضلوع «داعش» في الحرب الحالية وعلى أنه بات لاعباً أساسياً يؤدي وظائف مطلوبة من جهات عدة، من دون التخلي عن مشروعه الأساسي بل داعماً له.
إننا أمام معطيات عملية ساهمت فيها أكثرية القوى الفاعلة في المنطقة، الأكثرية التي إما تواطأت مع بروز «داعش» أو نسقت معه ودعمته في مرحلة ما، وعلى عكس ما كان شائعاً تظهر بنية التنظيم وخلافته منسجمتين تماماً مع تناقضات الحرب الحالية ومتغيراتها. بهذا المعنى، اختزال «داعش» إلى الصورة الأيديولوجية التي يروجها عن نفسه قد يصبح مساهمة أخرى في التضليل عن تكتيكاته السياسية وانخراطه الفعلي في المستوى المتدني والقذر الذي يميز العديد من السياسات في المنطقة.
وإعادة «الاعتبار» إلى المستوى السياسي الذي يمارسه داعشه ليست ضرورية لفهم آليات تمدده وانكماشه الحالية فحسب، إنه ضروري أيضاً للتمييز بين البعدين السياسي والثقافي للتنظيم، إذ يتغلب الأخير في الإعلام بينما يتغلب الأول في الميدان.
بالتأكيد، لا يصح وصفها بـ «خلافة تحت الطلب»، غير أن الأيام الماضية والآتية قد تثبت أن الجمع بين منطق الخلافة ومنطق التنظيم أكثر مرونة وحيوية من مبايعة تنظيم «القاعدة» للملا عمر أميراً للمؤمنين. فخلافة «طالبان» كانت محكومة بحدودها الجغرافية ونسيجها الاجتماعي، أما خلافة البغدادي فأقرب إلى فكر تنظيم «القاعدة» الذي لا يعترف بالحدود. ربما تكون المفارقة هنا أن يرث «داعشُ» «القاعدةَ» بعد خروجه على التنظيم الأم، بينما تتمسك «جبهة النصرة» بولائها لـ «القاعدة» بينما تستلهم فعلياً تجربة «طالبان». |