حتى الآن لم تلحق بـ «داعش» هزيمة واحدة في المدن الرئيسية التي تمدد إليها في العراق وفي سورية. هزيمة كوباني هو بصدد تعويضها الآن، وهزيمة تكريت لا قيمة لها باستثناء مساعي الحكومة العراقية لتصويرها فاتحة هزائم التنظيم على يد «الحشد».
لا إرادة دولية صارمة تهدف إلى تقويض التنظيم الإرهابي، والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركي غير منخرط على نحو فعال في الحرب على «الخلافة». ويبدو واضحاً أن الحساسية الأميركية تشتغل عندما يقترب «داعش» من الحدود مع إسرائيل، وأي شيء سوى ذلك سيكون قابلاً لمنطق الانكفاء، والاكتفاء بحدود لعبة الحرب الجوية الرتيبة.
بهذا المعنى، تقول واشنطن لحكومات المنطقة: «داعش» مرضكم فعالجوه. تقول ذلك لحلفائها قبل خصومها. وهي إذ تطلق تحذيراً تلو الآخر من خطورة التنظيم تُمعن في التأمل بتمدده إلى حدود كيانات لطالما شكلت ضمانات لنفوذها. الأمر أشبه بمغامرة غير محسوبة النتائج. الخليج مهدد بـ «داعش»، والأردن وتركيا أيضاً، ولبنان يترنح لمجرد ذكرها، ووحدها إسرائيل من يبدو محصناً. إنه فعلاً اللعب على حافة الهاوية.
«داعش» لا يقاتل على الثغور على ما فعلت «القاعدة» في العقدين الفائتين، إنما في المتون، وهذا ليس تحديداً جغرافياً فقط، إنما سياسي وسوسيولوجي. لا يقتصر تحديها للكيانات على استهدافاتها الميدانية، إنما يشمل فكرة هذه الكيانات وجوهر نشأتها الهشة. إنها «الخلافة» التي كشف إعلانها أن الدول كلها تمت بقرابة لفكرتها. وهي «الدولة» المتمكنة والمتسلطة، وضابطة العنف ومؤطرته ودافعته إلى حدوده القصوى، وهي بذلك تتحدى الدول والكيانات التي يشتغل العنف والتسلط ببطء في علاقاتها مع جماعاتها. «داعش» صورة المنطقة كلها وقد دُفعت عناصرها إلى أقصاها، وأضيف إليها إغواء جاهلي جعلها في مصفاة الحداثة وأمراضها. عيادة هائلة لأمراض الزمن الراهن ولتفريغ مكبوتاته.
لا يتمدد «داعش» وفق خريطة نزاع عسكري واضح. فجأة تسقط تدمر في يده. انسحاب خاطف لجيش النظام السوري يُمكنه من احتلال المدينة. مدينة الرمادي العراقية ابتلعها التنظيم في لحظة مشابهة لا تمت بصلة إلى الحسابات العسكرية. كانت الأنظار تترقب هزائم بدأت في تكريت، وإذا به ينقض على الرمادي. كوباني باشر العودة إليها قبل أيام في لحظة صعود نشوة نصر كردية.
في تدمر أصبح «داعش» على حدود الأردن وفي كوباني على حدود تركيا وفي الرمادي اقترب من الجوف. وهو لم يجعل لهذا التمدد مركزاً، ذاك أن فراغات هائلة تفصل بين نفوذه في هذه المناطق. نحن هنا أمام دولة من فراغ، وهي إذ تتدفق على نحو ما يتدفق السيل، تُخلي النفوذ وتعود إليه في لعبة شديدة الغرابة. بهذا المعنى، لا يشتغل التنظيم وفق منطق الخطط العسكرية، إنما وفق منطق تعبيد الفراغ ثم إعادة إنتاجه وتحويله منصة الوثبة المقبلة. في تدمر أفسح له النظام السوري أن يقترب من الحدود مع الأردن، وفي الرمادي لوحت إيران لدول الخليج به، وفي كوباني صار الجنود الأتراك على مرمى أنظار «مجاهديه».
تصح كل هذه المقولات، ذاك أن ثقافة «المؤامرة» صارت اليوم حقيقة. ولا يُمكن أن نفسر سهولة السقوط الغامض للمدن بيد التنظيم من دون العودة إلى «مؤامرة». لكن، لـ «المؤامرة» هذه المرة ركيزة ثقافية، هي ما يتيح للتنظيم أن يتدفق من صحراء إلى صحراء، ومن كوباني إلى تدمر ومن الموصل إلى الرمادي. والركيزة هي ما كشفته الحروب في العراق وفي سورية من فراغات هائلة لم يملأها أحد طوال تجربة نشوء الدولة الحديثة في معظم كيانات المنطقة.
علينا هنا أن نستعيد ما في ذاكرتنا القريبة عن هذه المناطق التي يتجول «داعش» في مُدنها. بر الشام الهائل المساحات لم تربط أهله بدولتهم سوى مراكز الجيش والأمن. ومدن صحراء الأنبار على جانبي الأوتوستراد الذي يخترقها تبدو للعابر براً من بغداد إلى الحدود مُدناً غبارية بعيدة ولا تتصل بغير هذه الرمال الكثبية، وأنت إذ تكتشف أن أصول صديق لك منها، تباشر في التأمل به محاولاً رد شيء من وجهه إليها، فلا تنجح، إذ إنك لا تعرف شيئاً عن هذه المدن التي كانت مضارب. مدينة الزرقاء الأردنية تصلح أيضاً لضمها إلى هذا الفراغ. الزرقاء غير البعيدة عن عمان، تُقيم أيضاً في الصحراء وحدها منفصلة عن العاصمة وقيمها وعمارتها. والزرقاء الأشد كثافة واكتظاظاً من عمان تنبسط في هذا الفراغ الغباري مولية وجهها إلى الحدود التي عبرها مئات من شبان المدينة للالتحاق بـ «داعش».
عندما أخلت السلطة الدموية في دمشق وفي بغداد نفوذها، انكشف هذا الفراغ. لا شيء يُمسك بهذه المدن سوى غبار الدولة المترنحة والنظام الفاسد. حتى العشائر التي خلفتها الدولة كانت منهكة ومترنحة ومتنازعة. «داعش» يعرف ذلك تماماً، وواشنطن كانت اختبرته في سنوات احتلالها الأولى للعراق. إذاً، القرار بالانكفاء ينطوي على معرفة بالنتائج، وما يجري ليس درساً تُلقنه الولايات المتحدة لحلفائها وخصومها، إنما هو اختبار لما قد تُنتجه المنطقة من تلقائها، في ظل الحد الأدنى من التأثير الخارجي.
هنا تماماً، تكمن خطورة «داعش» وقوته، أي في أنه الصورة الحقيقية لفراغ يضرب جذوره في عقود طويلة من انعدام الدولة. وفي أنه الحقيقة المتولدة عن فساد العلاقة بين دولة متسلطة وجماعاتها المتروكة في غبار مدنها. وأضيف إلى هذه القوة عناصر من خارجها. إنها ديناميّة أمراض المدن الحديثة، أي تلك التي تُرشح أي غربي لأن يكون «داعشياً». فمن منا غير مصاب بالاكتئاب؟ ومن منا لم تُغره حوريات الخليفة بترك عيادات الطب النفسي الكئيبة، والمجيء إلى المصحات الجماعية التي أنشأها الخليفة على ثغور دولته، والتي يُعالَج فيها المكتئبون والفصاميون، ويُعاد إدماجهم في وجدان جماعي أصلي ودموي؟
واشنطن قررت أن تُعاين ما يمكن أن نُنجبه في ظل الحد الأدنى من تدخلها. الأرجح أنها تفعل ذلك، والأرجح أنه ينطوي على سذاجة ثانية تشبه سذاجتها الأولى عندما قررت أن تمنح العراق «ديموقراطية» على نحو ما يمنح أبٌ ابنَه هديةً في عيد ميلاده، فكان الخراب الكبير. |