من المعلوم أنّ الدولة الحديثة في منطقة الشرق الأوسط ظاهرة تشكّلت بين القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، مع تفاوت حسب المناطق.
ففي حين بدأت معالم الدولة في مصر منذ تولّي محمد علي الحكم سنة 1805، لم تتضح معالم دول أخرى إلّا في فترات التحرّر الوطني ابتداء من منــتصف القرن العشرين.
ويلاحظ بصفة عامة أن فترات بداية النشأة ارتبطت في الغالب بظهور خطابات دينية دعيت بالإصلاحية، لأنها حاولت إدخال بعض الإصلاحات في الخطاب الديني لإضفاء الشرعية على مجموعة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي كانت ضرورية لميلاد الدولة الحديثة.
ليس هنا مجال الحديث المفصّل عن تاريخ هذه الخطابات الإصلاحية، لكن نودّ التركيز على مسألة في غاية الأهميّة بالنسبة إلى النقاش الدائر حالياً حول إخفاق ما يدعى بالإسلام السياسي. فالبقاء في مستوى المعاينة لا يكفي، وإنما يتعيّن أيضاً اقتراح البديل.
إنّ الأساس هو التشديد على أنّ مسار قيام كلّ دولة حديثة يرتبط حتماً بنشأة مبدأ المواطنة، بديلاً عن النظام السلطوي القديم. وعلى هذا الأساس، فإنّ أهمّ ما يميّز الحركات التي دعيت بالإصلاحيّة محاولاتها إعادة تأويل التراث الديني القديم كي يتلاءم مع فكرة المواطنة. أمّا الإسلام السياسي أو الأصولية السياسية، وقد مثلها المودودي وسيد قطب، فقد قامت على النقيض تماماً من مبدأ المواطنة.
لم يكن من المصادفة أن تتبلور فكرة المواطنة أوّلاً في مصر وتركيا والشام وتونس، فهذه المناطق هي التي شهدت بداية تشكّل الدولة الحديثة في القرن التاسع عشر. ولا شكّ في أنّ الكاتب العربيّ المشهور الأوّل الذي اقترب من مفهوم المواطنة هو المصري رفاعة رافع الطهطاوي (ت 1873)، ولم يحصل الأمر مصادفة، لأنّ تفكير الطهطاوي ارتبط بمشروع الأسرة الخديوية للاستقلال بمصر عن الخلافة العثمانية وإرساء نظام حكم يقتبس من الدول القومية الأوروبية.
وظهر الدستور الأوّل في المنطقة في المملكة التونسيّة سنة 1861، وكانت هذه المملكة بدأت منذ عهد حمودة باشا (1782 - 1814) حركة استقلالها عن الخلافة العثمانية، وتدعمت هذه الحركة في عهدي أحمد باي (1806 - 1855)، وكان كلّ من حمودة وأحمد متأثراً بالثورة الفرنسية.
وإننا لنجد المسار نفسه في كل الدول، مع اختلافات كبيرة في التفاصيل والمضامين الفكرية. لكن، يصحّ التأكيد بصفة عامّة على أنّ بداية تبلور الدول الحديثة كلها صاحبت قيام تجربة إصلاح ديني، تختلف معالمهما باختلاف تقاليد كلّ منطقة وتراثها الديني.
ومن الضروري اليوم إعادة تفعيل هذه التجارب الإصلاحية المؤسسة وطنيّاً، لتكون سنداً لإعادة تشكيل الخطاب الديني وفق الحاجيات الراهنة لكل وطن. فإذا كانت الإصلاحيات السابقة قد ركّزت على مفهوم الدولة، لأنّ المطلوب آنذاك كان الخروج من نظام الخلافة المتداعي، فإنّ بالإمكان التركيز اليوم على التعدديّة والديموقراطية وحقوق الإنسان، للخروج من النظام الجمهوري في شكله التقليدي، وقد عصفت به العولمة من جهة، والثورات من جهة أخرى.
وليس المقصود هنا العودة إلى مواقف الإصلاحيين الأوائل، إنما المقصود استلهام روحهم التحرريّة والجريئة، لمواجهة مشاكل اليوم، والاستناد إلى انفتاحهم على عصرهم لدعم مواقف الانفتاح على العصر الحاضر.
ولما كان هذا التراث الإصـــلاحي مختلفاً من بلد إلى آخر، فإنّ المطلوب ليس إقامة هيــئة إسلامية عالمية تصدر الفتاوى، على شاكلة ما يدعى «الاتحـــاد الـــعالمـــي لعـــلماء المسلمين»، أو مبايعة رجل دين ليصبح حبر المسلمين الأكـــبر، أو إقامة أحزاب تلبس لباس الدين للوصول إلى السلطة، بل المطــلوب تشجيع الدعوات والتيارات الإصلاحية في سياقاتها الوطنية المختلفة والمتنوّعة، لأنّ القابلية لتعميق الإصلاحات تختلف حتماً من سياق إلى آخر، ولا يمكن فرض برنامج مشترك بين الجميع.
وهذا الحلّ هو الذي نراه الأمثل، وهو يختلف عن التعامل السابق للدولة مع الدين، إذ ليست الغاية توظيف الدين لمصلحة الدولة ولا توظيف الدولة لمصلحة الدين، إنما الغاية توطين الدين في الحركيّة الاجتماعية العامة، بما يجعل الخطاب الديني يتطوّر بتطوّر المجتمع ذاته، متحرّراً من التجاذب الذي أسر فيه عندما أصبح أداة لتبرير الحكم أو المعارضة ووسيلة لخدمة غايات طائفيّة وحزبيّة. |