إذا لم يكن في مقدور الفرقاء الليبيين المتناحرين أن يواجهوا بعضهم في جلسة مصارحة مكشوفة، ويستضيفهم سقف قاعة واحدة في الصخيرات المغربية أو غيرها من محطات الحوار، هل في إمكانهم الاتفاق على صيغة وفاقية مقبولة، حول المرجعية القانونية والسياسية لحكومة وحدة وطنية، بخاصة وأن هذا الطموح ليس غير وسيلة تفسح في المجال أمام طرح إشكالات معالجة الأوضاع الأمنية والاقتصادية المتدهورة.
عادة ترتبط الأزمات الحكومية بأوضاع وصراعات سياسية، فيما الحل بالنسبة إلى الليبيين يتعلق بإنقاذ البلاد أو ما تبقى منها، بعد أن انشطرت إلى تحالفات ودكاكين وأهواء، أبعدت عن أن تصبح مجرد دولة عادية بلا طموحات. وإذا كان تشكيل الحكومات يخضع لتوازنات بين المعارضة والغالبية في النظم الديموقراطية، فقد أصبح الأمر أقرب إلى هدف لتجاوز الانقسام الحاصل، ما يفرض تقديم تنازلات متبادلة تضع في الاعتبار مصلحة البلاد.
لم يسبق لأي أزمة أن هددت النسيج الاجتماعي والسياسي، كما يحدث في مقاربات المصالحة التي توزعت بين تباين مواقف الأحزاب والقبائل والمرأة والشباب ومؤسسات التمثيل الشعبي، حتى صار كل طرف يناصر قضيته، وغاب عن كل ذلك حملة السلاح الذين يتقاتلون، مع أنهم الأكثر نفوذاً في توجيه الأحداث في غياب مقومات الدولة.
منطقياً يبدو توسيع مجال الحوار ليشمل فاعليات من غير البرلمانيين المتحاربين حول الشرعية، فكرة وجيهة لنزع صفة احتكار القرار السياسي، لكن الأخطر في العملية عند استمرار الأزمة، أنها ستوجد متنفساً أمام التفرقة، لا يشمل برلمانيي وحكومتي طبرق وطرابلس، بل كل مكونات المجتمع الليبي، إلا أن من يتابع طروحات وتمنيات هذه الأطراف يخال أن الأزمة الليبية تقع في كوكب آخر، بينما مسودة الاتفاق الذي ترعاه بعثة الأمم المتحدة خضع لأكثر من تعديل يرجح أن يكون في طبعة حوار الصخيرات المرتقب.
ولعل بعض بوادر الأمل تكمن في أن الأطراف المتحاورة في غير الصخيرات تبدو أقرب إلى تفاهمات، ما يحتم على باقي الأطراف التي تدّعي تمثيلية انتخابية أن تذعن لهذا التوجه وتعمل على تسريع خطوات التسوية، كي يصبح كذلك ذا قوة إلزامية. فلا أقل من أن يبدأ الحوار هذه المرة من دون وكالة، طالما أن التجارب الإنسانية تقدم المزيد من الأمثلة عن حوارات الأعداء والخصوم الذين يصافحون بعضهم عندما تسكت المدافع ويقع احتساب الخسائر والانتصارات. ولا أحد يعتقد بأي مكسب عند تدمير الدولة وتحويلها إلى خراب وأشباح، إلا أن يكون التدمير غاية في حد ذاته.
لكن نقطة الضوء تشع من خلال اعتبار الحرب على ما يعرف بالدولة الإسلامية والتنظيمات الإرهابية المتطرفة هاجساً مشتركاً. ففي الخلاصة أن الملاذات التي تؤويها تنبعث من ركام الأزمات واستباحة الأوطان وسيطرة الميليشيات وغياب القانون، ولم تفلح التنظيمات في التغلغل في سورية والعراق واليمن وليبيا، إلا لأن هناك تربة خصبة تتمثل في انعدام الاستقرار واستقالة الدولة، مع عدم استثناء مظاهر الشحن الفكري والديني الذي يؤثر في عمليات الاستقطاب.
من أجل ترجمة هذا الموقف إلى أفعال ملموسة، لا بد من الاتفاق على صيغة الحل السياسي الذي تقترحه مسودة بعثة الأمم المتحدة من دون استثناء إمكان إدخال تعديلات تقرب فجوات التباعد بين المواقف. وتبدو الإشارة الصادرة لناحية التلويح بفرض عقوبات دولية على مناهضي التسوية السياسية بمثابة تحذير بنفاد الصبر وعدم الإذعان للأصوات التي تفيد من استمرار الأزمة داخلية كانت أم خارجية. بينما توحي البعثة الدولية من خلال تأكيدها تلقي آلاف الرسائل من المواطنين الليبيين الذين يعربون عن قلقهم حيال الأوضاع المتردية، أن قضية التمثيلية الانتخابية لا يمكن اعتبارها مرادفاً لشرعية دائمة، بل إن دعم الشرعية يأتي من الشارع الليبي الذي ضجر من تفاقهم الأزمة وغياب إرادة الذهاب نحو الحل.
لم ينفع تسليط الأضواء الكاشفة على الأزمة الليبية، بخاصة لدى الربط بين إشكالاتها وتنامي الهجرة غير الشرعية في دفع الأطراف المتناحرة إلى استيعاب الدرس جيداً. ولم يكن التهديد باستخدام القوة في تدمير قوارب الموت التي تقل المهاجرين في عرض البحر المتوسط أكثر من إذعان لناحية استخدامها في قضايا وملفات أخرى، ليس أبعدها الحد من تمدد ما يعرف بالدولة الإسلامية داخل المثلث الليبي، غير البعيد عن منابع النفط. ففي سابقة التحالف ضد «داعش» في العراق وسورية، ما يرجح فرضية نقل المعركة إلى أمكنة أخرى.
الأكيد أن العجز عن إقرار المصالحة يمكن أن ينسحب على قضايا أخرى، لذلك تصبح الجولة المرتقبة في الصخيرات أقرب إلى طوق نجاة يفترض أن يمد به الليبيون بعضهم قبل أن ينقطع الحبل. |