تسيطر المرجعيات السياسية الطائفية الأساسية على الرأي العام من خلال إيحاء قديم جديد تنسج من خلاله في المخيلة الشعبية جملة اقتناعات واهية منها، أن تلك المرجعيات أو الزعامات المتوارثة تمثّل ضمانة جماعتها الوحيدة، وفي الوقت عينه، أن الشؤون اللبنانية تُقرر دومًا خارج لبنان، وتبعًا لتقاطعات المصالح الإقليمية والدولية.
من تجليات هذا الإيحاء ما يُقال حاليًا عن أن انتخاب رئيس البلاد يتوقف على ضوء أخضر إقليمي أو دولي. إنه بلا شك إيحاء ساذج ومخادع في آن واحد. أما كونه ساذجًا فلأن أحدًا لا يمكنه التسليم بقدرة قادرٍ خارجي على تعطيل الانتخابات إن أراد اللبنانيون إنجازها. وأما كونه مخادعًا فلأنه مجرد قناع لنفوسٍ فاسدة مفلسة أخلاقيًا ووطنيًا، لا تنشد في التعاطي السياسي إلا مصالحها الشخصية أو الفئوية التي تسخِّر في سبيلها كل علاقاتها الداخلية والخارجية، وقدراتها المادية والإعلامية والنفسية، وبوجه خاص توظيف العصبية الطائفية والمذهبية. بالطبع، لا يخفى على أحدٍ نفوذ القوى الإقليمية والدولية في بلدٍ ضعيف مثل لبنان، ولكن لا يخفى على أحدٍ أيضًا أن هذا النفوذ ما كان ليتوطد لو لم يجد له تربة داخلية صالحة.
لا حاجة إلى التوسع في حقيقة أن النظام الطائفي الذي تكرس نتيجة تطور تاريخي طويل تمتد جذوره إلى الزمن العثماني والحلول التي اعتُمدت لأزمات جبل لبنان، تكمن في أصل تكوين الذهنية السياسية السائدة. إنها ذهنية تُغيِّب في العمل السياسي كل سعي حقيقي لإنتاج سياسة عامة بكل ما للكلمة من معنى، وتهمل تحسين عمل النظام من خلال تجاوز الترتيبات الطائفية إلى المبادئ الدستورية الديموقراطية، وتغفل إرساء الأسس الفلسفية والثقافية السليمة للقيم اللبنانية المشتركة، وفي طليعتها الحريات العامة والخاصة، وحقوق الإنسان، والانفتاح الثقافي، والاقتصاد الحر، والعدالة الاجتماعية، التي من شأنها أن تساهم تدريجاً في العبور من أولوية الانتماء الطائفي والمذهبي إلى أولوية الانتماء الوطني.
وفي الواقع، إن ما حصل منذ اتفاق الطائف كان تفاقم النظام الطائفي والتباساته الوظيفية والوطنية على نحوٍ مأسوي. وتأتي بعض التوجهات التربوية والثقافية والدينية لتعزز، ويا للأسف، من هذه الحالة - وإن بحسن نية - إذ تبحث عن مخارج للمأزق اللبناني ضمن عناصره الطائفية التي تبدو وكأنها أبدية، فتصدر صيغًا غامضة لا تتجاوز في العمق التباس الميثاق الوطني غير المدون، عوض أن تبحث عن حلول خارجًا عن الموروث الطائفي، أي في مبادئ الديموقراطية الليبرالية والعلمانية، وتنتهج بجرأة الخطوات التربوية والاجتماعية والسياسية التي تؤدي إلى تحقيق تلك المبادئ الشاملة والمتفوقة على كل أشكال الحكم الأخرى، والضامنة تطور المواطن والمجتمع تطورًا منسجمًا متكاملاً.
إنّ مخادعة الإيحاء المذكور تعمل على ربط الحقوق الطائفية والمذهبية وامتيازاتها التي ينص عليها الدستور بالزعماء، إذ يُحول هؤلاء أنفسهم إلى ضمانات جماعاتهم. وبالتالي، يصبح "الشخص" وليس النص الدستوري ضمانة الجماعة، بل ويصبح نجاح "الشخص" وفشله عامل نجاح الجماعة أو سبب إحباطها. أما الدستور فيُسخَّف من طريق سهولة انتهاكه وتفريغه من مضمونه.
لقد أصبح النظام بالتالي منغلقًا على ذاته في حلقة مفرغة تُنتج فيها الزعامات نفسها ضمن منطق الإيحاء بالضمانة، وتتصارع فيها، داخل الجماعة الواحدة، بعضها مع بعض بغية مصادرة حصرية التمثيل وإلغاء الخصم، مُرفقةً صراعها في الغالب بسياسة خدماتية تهدف إلى خلق نفسية تبعية وزبائنية في أوساطها. لا أمل في تحسين الأوضاع والنظام في ظل وضع مماثل. لقد بات تحرير الرأي العام من كابوس الإيحاء الزعاماتي المخرج الوحيد لبث الحياة وروح المسؤولية في العمل السياسي والوطني، وخلق مستقبل يشد الأنظار إليه ويحفز على الانخراط الفاعل في الحياة السياسية والوطنية.
لقد أدخل الإيحاء الزعاماتي الرأي العام في حالة سبات أو لامبالاة، إن هي إلا ثروة لا تقدر بثمن للزعامات التقليدية. فهذه لا تخشى محاسبتها أو مساءلتها، لا مؤسسيّاً وهي تسيطر على المؤسسات العامة، ولا شعبيًا، وسياساتها تغذي حالة اللامبالاة السياسية والتبعية.
لا بد من أن يعي الرأي العام سيادته وقدرته على إنتاج ممثليه ومحاسبتهم؛ ولا بد له من التنبه إلى أن الدستور وحده ضمانة ديمومة بلاده، والعمل الصارم به يؤسس وحده لمستقبل مشرق. يعني العمل بالدستور صراحةً اطاحة الحالة الأبوية أو الزعاماتية السائدة. فالدستورية تفرض قواعد تقوم عليها السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والأمنية، وتضع في الوقت نفسه حدودًا لتلك السلطات. بالطبع، ليس من دستور كامل، ولكن تطور كل دستور في اتجاه مزيد من الديموقراطية يبدأ بتطبيق مواده بكل دقة. لقد حان وقت مخاطبة الرأي العام مباشرة! أستاذ في جامعة القديس يوسف
|