ولد جرم التحقير كما يمارس اليوم من قبل المحاكم الجنائية الدولية في انكلترا حوالى القرن العاشر. ويرى البعض أن جذوره هي في التوتاليتارية. وبشكل عام، إن جرم تحقير المحكمة هو عمل مقصود بعدم احترام المحكمة أو السلطات العامة أو الهيئات البرلمانية، وعدم الاكتراث بالقوانين والأنظمة والتعرض لكرامة المحكمة ومكانتها. يمكن أن يطال الاتهام فرقاء الدعوى أو المحامين، أو الموظفين العدليين، أو المحلفين، أو الشهود، وحتى أشخاص ثالثين يتدخلون في قضية معينة كالمعارضين خارج قاعة المحكمة، على سبيل المثال. أما العقوبة فقد تكون مدنية أو جزائية، حسب الحالة.
ويختلف جرم التحقير بطبيعته عن الجرائم الأساسية core crimes الداخلة ضمن صلاحية المحاكم الجنائية الدولية. أما قرار المحكمة الخاصة بلبنان بملاحقة الأشخاص المعنويين فهو دليل إضافي على إن جرم التحقير له طبيعة مختلفة عن طبيعة الجرائم الأساسية التي تدخل في صلاحية تلك المحاكم الجنائية الدولية، إذ إنها تلاحق فقط الأشخاص الطبيعيين دون الأشخاص المعنويين. لماذا وجود جرم "تحقير المحكمة"؟ إن سلامة أي نظام قضائي مرتبطة بإمكانية أطراف النزاع التحرك أو الكلام بحرية دون خوف من تدابير ثأرية. وهي أيضا مرتبطة بقدرة المحكمة على حل النزاع أو كشف الحقيقة، أو معاقبة المخالفين، أي قدرة المحكمة على القيام بدورها على أكمل وجه. أما بالنسبة للمحاكم الدولية، فتضاف ثقة الدول الملزمة بالتعاون مع المحكمة والتي تشكل جزءا لا يتجزء من قدرة المحكمة على التوصل إلى النتائج المطلوبة منها. لذلك، فإن أي تهديد لأي طرف في القضية، أو إتلاف الأدلة، أو التهديد بإتلافها، أو رشوة أي طرف في الدعوى، أو التعرض لسير العدالة، يعتبر تحقيرا للمحكمة ويعاقب عليه.
ومنذ أواخر القرن العشرين وتكاثر المحاكم الجنائية الدولية، تحاول الأخيرة حماية سلامة مهمتها. فيعاقب جرم التحقير الإساءة إلى ما يعتبر "مرفق العدالة الدولية العام" بتأمين حماية المصلحة العامة في إدارة العدالة، وتحصين احترام حكم القانون. حماية سلامة العدالة، وسلطة وصدقية المحاكم وكرامتها هي العبارات التي تتكرر مظهرة الإرادة في تقديس المحكمة والعدالة.
ولقد واجه تبني جرم التحقير انتقادات عديدة إذ تعتبر اختراعا من قبل القضاة (praetorian creation). لكن ولو إن الجرم لا يدخل ضمن صلاحية المحاكم المادية، إلا إنه يتعلق بقدرة المحكمة على العمل. لذلك يعتبر الفقه والاجتهاد بأن هذه الصلاحية هي صلاحية ضمنية لا تحتاج إلى نص صريح، لأنها ضرورية بالنسبة للجرائم الأساسية، أي الجرائم التي من أجلها أنشئت المحاكم الجنائية الدولية. كما يقول البعض الآخر بأن غياب النص يفقد الجرم عنصره القانوني. في الأنظمة القانونية الداخلية لا تعرف دول "القانوني المدني" جرم تحقير المحكمة. فهو موجود في بلاد الـ "كومون لو" مثل بريطانيا، والولايات المتحدة، وأيرلندا، وأوستراليا، وكندا، الخ. أما فرنسا، وهي وطن القانون المدني، فلقد جرّمت التحقير إذ اعتبر قانون العقوبات الفرنسي في المواد 434-7-1 الى 434-23-1 إن التحقير ينال من هيبة الدولة وسلطتها، ويَعتبر الأفعال التي تشكل تحقيرا تهديدًا للوطن والدولة والسلم الأهلي. كما يجرم قانون العقوبات الفرنسي جرم التحقير للمحكمة الجنائية الدولية (الفصل 4، الجزء 2). في القانون اللبناني لا يعرف القانون اللبناني جرم تحقير المحكمة لكن قانون العقوبات يتضمن أحكاما تتشابه بعض الشيء مع هذا الجرم إذ نصت المادة 382 على ما يلي:
"من هدد بأي وسيلة كانت، قاضياً،أو أي شخص يقوم بمهمة قضائية أويؤدي واجباً قانونياً أمام القضاء،كالحكم أو المحامي أو الخبير أو السنديك أو الشاهد، بقصد التأثير على مناعته أو رأيه أو حكمه أو لمنعه من القيام بواجبه أو بمهمته، يعاقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من مئتي ألف إلى مليوني ليرة. وإذا انطوى التهديد على وعيد باستعمال السلاح أو بالاعتداء على الأشخاص أو الأموال، أو إذا اقترن بأحد هذه الأفعال عوقب الفاعل بالأشغال الشاقة المؤقتة".
أما الفرق فهو أن الجرم في القانون اللبناني يفرض أن يكون الفاعل قد قام بفعلته "بقصد التأثير على مناعته أو رأيه أوحكمه أو لمنعه من القيام بواجبه أو بمهمته". وهذا الشرط غير مطلوب دائما في الجرم كما هو ملحوظ لدى المحاكم الجزائية الدولية. فقد تعاقب تلك المحاكم أفعالا قد تبقى دون عقاب في النظام اللبناني. الاصطدام بين حقين أساسيين من حقوق الانسان إن الأساس القانوني للإدارة الجيدة للعدالة يوجد في القانون الدولي التعاقدي إذ نصت عليه مجمل اتفاقات حقوق الانسان. فالحق في العدالة هو من حقوق الانسان الأساسية ولقد كرس العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الحق في العدالة في المادة 14. وعلى العدالة الجيدة أن تكون مستقلة وفعالة. ولقد كرست كل المعاهدات الإقليمية لحقوق الانسان هذا المبدأ بمفردات شبه مطابقة.
لكن قد يصطدم هذا الحق بحق آخر من حقوق الإنسان، الحق في حرية التعبير الذي هو أيضا مكرس في المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وتحدد هذه المادة مساحة حرية التعبير إذ تعتبر أنها تشمل حرية البحث وتلقّي ونشر المعلومات بواسطة أي وسيلة إن كانت مكتوبة أو مسموعة أو بصرية أو حتى رقمية. وتشمل أيضا طريقة الانتاج كالطباعة أو التصوير أو التسجيل، الخ. أما تقييد هذا الحرية فيخضع لشروط ضيقة ومحددة بناء على المبدأ القائل بأن الحرية هي المبدأ والتقييد هو الاستثناء. فيمكن الاستثناء أن يقر إذا احترم شروط الضرورة والتناسب، وفقط بحثا عن أهداف حددتها المادة 19 والتي يشكل تجاهلها أو تخطيها خرقا يعاقب عليه القانون.
إن جرم التحقير وإصدار المحاكم الجنائية الدولية قرارات تمنع من نشر معلومات معينة، وتعاقب بالتالي على نشر المعلومات، هو أمر يصطدم بحرية التعبير. وهذا الاصطدام يولد شرارات تهدد بأشعال النقمة في كل البلدان التي عنيت بمثل هكذا قرارات. شروط تقييد حرية التعبير نظرا الى خطورة تقليص حق من حقوق الإنسان، تطلب المعاهدات الدولية أن تُفرض هذه القيود بموجب "قانون"، بأن تكون "ضرورية" لحماية الأمن القومي أو الانتظام العام أو الأخلاق العامة أو الصحة العامة، أو لحماية حرية الآخرين أو سمعتهم. كما يجب أن تكون القيود متناسبة مع الهدف المرجو ومع الخطر الذي يبرر مثل هذه القيود.
ويبدو أن عبارة "قانون" يقصد بها القانون بالمعنى المادي للكلمة أي النص الصادر عن السلطة التشريعية، وذلك حسب تفسير المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وبحسب أجهزة الأمم المتحدة المعنية. أما المحكمة الأوروبية فقد اعتبرت أن القرار القضائي يشكل "قانونا" بمعنى المعاهدة الأوروبية.
أما الخيار بين حريتين فليس بالأمر السهل، والجهة المولجة باتخاذ القرار هي الدولة الذي تستطيع القيام بهذا الخيار بموجب "هامش التقدير" الذي تملكه والمعترف لها به. وهو سلطة استنسابية مطلقة تستعملها ضمن المعايير والأهداف المذكورة. إمكان تطبيق الاتفاقات الدولية على المحاكم الجنائية الدولية إذا كانت الاتفاقات لا تتضمن نصا صريحا بهذا الشأن، إلا أن كل التفسيرات التي أعطيت للمادة 19 تؤكد بأن تطبيق أحكام تلك الاتفاقات صمم للدول. إن تقييد الحريات وسن القوانين المتعلقة بها وتنفيذها هو مهمة الدولة. فالدولة هي الجهة المقصودة في هذه الاتفاقات، إذ أنها الجهة المسؤولة عن حماية الحريات العامة. ولا شيء يدل في نص هذه المادة على إمكان قيام محكمة بتقييد حرية التعبير.
من جهة أخرى، اعتبرت المحكمة في قضية فلورانس هارتمان إن تقييد حرية تعبير الصحافية الفرنسية بموجب قرار التحقير كان يهدف لحماية الانتظام العام. لكن إذا كان مفهوم الانتظام العام واضحاً في القانون الداخلي، وإذا جرى اقتباسه بسهولة في القانون الدولي الخاص، إلا أن توسيع نطاق تطبيقه لمجال القانون الدولي العام يثير بعض المشاكل إذ إن المفهوم غير واضح الملامح في هذا المجال. حتى إن مبادئ القانون الإلزامية jus cogens لا تدخل جميعها في مفهوم الانتظام العام، وهي لا تتضمن تحقير المحكمة على كل حال، كما لا نعرف ما إذا كان المقصود بها هو السلم والأمن الدوليين.
وهنا يطرح السؤال حول إمكان توسيع نطاق تطبيق المعاهدات الخاصة بحقوق الانسان (وإمكان تقييد الحريات التي تتضمنها) على المحاكم الجنائية الدولية، خاصة ان القاعدة في القانون الجنائي هي التفسير الضيق للنصوص، خاصة تلك التي تصون الحقوق والحريات. فمن الصعب التوسع بطبيق المعايير القانونية مع تعديلها ضمنياmutatis mutandis إلا إذا اعتبرنا إن حرية التعبير هي قانون دولي عرفي ولا تحتاج إلى نص صريح بالضرورة. لكننا لا نعتقد بأن هذا الموقف له أي حظ إذ إنه غير أكيد. وهذه الحالة تؤثر على مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات الذي يرتكز عليه سلطان المحاكم الدولية الجنائية. مدى موجب التعاون الملقى على عاتق الدول ترتبط المحاكم الجنائية الدولية بشكل كبير بسرعة الدول في تلبية طلباتها. ففي غياب تعاون كاف، يصبح مصير ملاحقة الجرائم الفشل الأكيد. ويثير موجب التعاون سؤالين اثنين حول أساس أو مصدر صلاحية المحاكم الجنائية الدولية في موضوع التحقير من جهة، وحول أساس موجب التعاون من جهة أخرى. فمن عطف هذين العنصرين على بعضهما تتجلى هندسة متباينة للتعاون المطلوب من الدول وخاصة لموجب التعاون المفروض على الدول.
في ضوء قواعد القانون الدولي العام وسيادة الدولة، لا يمكن أن يتعلق موجب التعاون إلا بالجرائم الأساسية core crimes التي أنشئت من أجلها تلك المحاكم. بالفعل، وبناء على القواعد الأساسية للقانون الدولي، لا يمكن افتراض وجود قرينة حول موجبات الدول بل يجب وجود إرادة صريحة، كما ان ممارسة الحقوق السيادية تفسر تفسيرا ضيقا (قضية ويمبلدون، محكمة العدل الدولية الدائمة، 1923). فقرينة الحرية تفسر دائما لمصلحة الدولة.
وبالتالي، ولو تذرع القاضي الجنائي الدولي بصلاحياته المتأصلة للنظر في قضايا التحقير، ما من أشارة إلى أن موجب التعاون قد يوسع تطبيقه ليشمل جرم التحقير، وذلك في حال غياب نص صريح لهذه الجهة. لهذا السبب رفضت فرنسا التعاون مع المحكمة الخاصة بيوغوسلافيا، في قراءة لنص اتفاقية التعاون بينهما التي لا تنص صراحة على جرم التحقير.
وفي حال تمنعت الدولة عن التعاون، لا تملك المحاكم الجنائية الدولية السلطة القمعية لمعاقبتها. فيعود لمجلس الأمن اتخاذ قرار بالمعاقبة حسب أحكام الفصل السابع من شرعة الأمم المتحدة. وعلى العموم، قد يختل التعاون مع المحاكم الدولية الجنائية عندما يتعلق الأمر بحق من حقوق الانسان، ويحق للدولة أن تعطي الأفضلية لموجباتها النابعة من الاتفاقات الخاصة بحقوق الانسان. وقد يشكل أيضا القانون الداخلي للدولة عائقا للتعاون فيما يخص جرم التحقير.
إن التفسير الواسع للصلاحية في موضوع التحقير الذي يطمح لتوسيع اوتوماتيكي لموجب التعاون قد يكون له الأثر السلبي على التعاون وعلى إرادة الدول بالالتزام في المستقبل. محامية في الاستئناف وأستاذة القانون الدولي رئيسة المركز اللبناني للدراسات الدولية
|