يمكن القول أن قضية «تجديد الفكر الديني» التي أثارها مفكرو النهضة العربية الأولى تحولت في السنوات الأخيرة إلى ما يطلق عليه «تجديد الخطاب الديني». والذي تحول من موضوع مطروق على ألسنة المتحدثين وبأقلام الكتّاب إلى إشكالية!
ولو حاولنا أن نتتبع الجذور الأولى لقضية تجديد الفكر الديني لوجدنا أنها نبعت من النماذج الأساسية لاستجابة المفكرين العرب للتحدي الغربي، والذي لم يتمثل فقط في التحدي الاستعماري لعديد من البلاد العربية، وإنما تجاوز ذلك إلى التحدي الثقافي. ذلك أن الغرب أصبح مصدراً للتهديد السياسي الذي أثّر من خلال الاستعمار على استقلال الدول العربية، ولكنه تحول ليصبح – في صوره البارزة - غزواً ثقافياً يهدف الى مسح الملامح البارزة للشخصية العربية الإسلامية، وغرس بذور الأفكار الغربية الأساسية في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة. ومن هنا كان من المنطقي أن يهب المفكرون العرب – بحسب اتجاهات كل واحد منهم – للاستجابة للتحدي الغربي.
ويقدم لنا المؤرخ المغربي المعروف عبدالله العروي في كتابه الشهير «الأيديولوجية العربية المعاصرة» ثلاثة نماذج مثالية Ideal Types – إذا استخدمنا لغة عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر- تعبّر عن الاستجابات المختلفة للتحدي الغربي.
النموذج الأول هو «وعي الشيخ»، ويعبّر عنه الشيخ محمد عبده الذي شغل منصب مفتي الديار المصرية. والنموذج الثاني هو «وعي الليبرالي»، ويعبّر عنه الدكتور أحمد لطفي السيد والذي شغل منصب رئيس الجامعة المصرية. والنموذج الثالث هو «وعي داعية التقنية»، ويشير بذلك إلى المفكر المصري الماركسي سلامة موسى.
الشيخ محمد عبده كان مصلحاً دينياً، وأراد أن يجعل الإسلام معاصراً، وكتب كتابه المعروف «الإسلام والعلم». والدكتور أحمد لطفي السيد كان متعصباً تعصباً شديداً لليبرالية كمذهب سياسي، وهو الذي أدخل مفرداتها الأساسية إلى اللغة العربية وكان يسمّيها «مذهب الحريين»، غير أنه - إضافة إلى ذلك- دعا إلى القطع التام مع التراث العربي بما فيه التراث الديني.
أما سلامة موسى فقد كان داعية للتنمية التي تقوم على التصنيع والتكنولوجيا.
الشيخ محمد عبده فشل في تكوين مدرسة فكرية تواصل جهوده التجديدية في الفكر الديني، ولكنه أورثنا الشيخ رشيد رضا مؤسس مجلة «المنار» والذي كان مفكراً إسلامياً محافظاً ورجعياً ومتزمتاً. وهو الذي أثّر في أفكار الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» (1928) والذي حوَّل تجديد الفكر الديني من مشروع فكري إلى مشروع سياسي انقلابي يقوم على أساس القضاء على الدول العربية الإسلامية المدنية، وتأسيس دول دينية على أنقاضها، سواء من خلال الانتخابات أو عن طريق الإرهاب الذي مثّله «التنظيم السري» الذي أنشأه البنا داخل الجماعة، والذي قام باغتيال رئيس وزراء مصر النقراشي باشا وكذلك المستشار الخازندار القاضي الذي حكم بأحكام قاسية على الإرهابيين من أعضاء الجماعة والذين قاموا بجرائم اغتيال.
وخلاصة هذه اللوحة التاريخية الوجيزة التي قدمناها أنه في مرحلة أولى لم ينجح التيار الديني المتطرف في الوصول إلى السلطة بعد أن دخل في مصادمات شتى مع النظم السياسية العربية الليبرالية ولذلك انزوى، أما تيار التصنيع والتكنولوجيا فلم يتح له التحقق إلا بعد قيام ثورة تموز (يوليو) 1952 والتي قامت بثورة تصنيعية كبرى.
غير أن أهم ملمح من ملامح التاريخ الفكري منذ العشرينات هو رفض التيار الإسلامي المتطرف بكل صوره للحداثة الغربية. ولذلك لم يكن غريباً هجوم الإسلاميين على الحضارة الغربية ورفضهم القاطع لها، باعتبار أنها هي - وليس غيرها- التي أفرزت القوى الاستعمارية التي حطمت الخلافة الإسلامية من جانب، واستعمرت بلاداً عربية وإسلامية عديدة من جانب آخر.
وقد يكون مقبولاً هجوم الإسلاميين على القوى الاستعمارية الغربية، غير أنه من غير المقبول في الواقع النظر إلى الثقافة الغربية وكأنها كتلة واحدة صماء، لا تمايز فيها ولا تنوع.
ومن ثم، لا ينبغي التعميم الجارف على الثقافة الغربية، وادعاء أنها بطبيعتها مضادة للقيم الإنسانية الرفيعة، التي تتعلق بالحرية والعدل والمساواة، كما أنها ليست معادية أيضاً للإسلام وللمجتمعات الإسلامية.
ويمكن القول أن الأخطر من الرفض المطلق للثقافة الغربية هو ادعاء الإسلاميين المتشددين أن الخراب لم يلحق بالبلاد العربية والإسلامية إلا بسبب تبني مبادئ الحداثة الغربية، ومن بينها تطبيق القوانين الوضعية ووقف تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وهو ادعاء ليس له من أساس.
غير أن نقطة الانقطاع التاريخية في التاريخ العربي المعاصر هي تحول هذه المناظرات الفكرية بين أنصار الحداثة الغربية والرافضين لها من جماعات الإسلام السياسي المتطرفة إلى معارك دموية يسقط فيها عشرات الضحايا، بعد أن تحولت الجماعات المتطرفة إلى جماعات إرهابية صريحة قامت من خلال القياس الخاطئ والتأويل المنحرف لنصوص القرآن الكريم والسيرة النبوية إلى إضفاء المشروعية على قتل المسلمين وغير المسلمين واستحلال أموالهم. وقامت هذه الجماعات - ومن أبرز نماذجها في مصر «جماعة الجهاد» و»الجماعة الإسلامية» - بارتكاب كثير من جرائم الاغتيال، ونشرت الترويع في كل أنحاء البلاد إلى أن استطاعت الدولة المصرية القضاء المبرم عليها.
غير أن هناك تغيرات كبرى حدثت في مجال السياسة والاقتصاد والثقافة في العالم العربي أدت إلى بروز جماعات إرهابية على المستوى الإقليمي العربي وعلى المستوى العالمي، وأبرزها تنظيم «القاعدة» بقيادة أسامة بن لادن.
وهكذا تحول ما أطلق عليه «الإرهاب الإسلامي» إلى إرهاب معولم أصبح يمثل خطراً داهماً على أمن الدول الغربية ذاتها، ما دعا إلى حملات متعددة لمحاولة وقف هذا المد الإرهابي الخطير.
وها نحن أمام المشهد «الداعشي» – إن صح التعبير- حيث تمدد تنظيم «داعش» من سورية إلى العراق واحتل مناطق هائلة، وتسرب بعد ذلك إلى ليبيا، ما دعا إلى تكوين حلف دولي لمواجهته تشترك فيه دول عربية شتى.
غير أن الذي يهمنا التركيز عليه هو أن هذه التطورات الخطيرة دعت إلى حملات متعددة شعارها ضرورة «تجديد الخطاب الديني»، ولم تنطلق هذه الحملات من إطار منهجي مدروس يجيد وضع المشكلة والتماس الحلول لها.
وقد قام شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب يوم الثلثاء الماضي، 26 أيار (مايو) 2015، بدعوة مجموعة كبيرة من المثقفين المصريين ورجال الدين لمناقشة إشكالية تجديد الخطاب الديني.
وشاركت في هذا الاجتماع المهم، كما شاركت من قبل في ندوات عدة دعا إليها شيخ الأزهر وأصدرت وثائق بالغة الأهمية عن «مستقبل مصر» و»بيان لدعم إرادة الشعوب العربية» و»بيان لمنظومة الحقوق الأساسية» و»بيان حول استكمال أهداف الثورة» وأخيراً «بيان عن القدس الشريف».
وقد عرضت في مداخلتي التي قدمتها في الندوة لثلاث رسائل أساسية تصلح محاور لتجديد الخطاب الديني.
الرسالة الأولى موجهة الى العالم بأسره لتنقية صورة الدين الإسلامي من الصور المشوهة التي يذيعها تنظيم «داعش» مفادها أن القرآن الكريم يتضمن آية مبهرة في سورة الحجرات تقول «يا أيها الناس إنا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير». وهذه الآية تصلح أن تكون شعاراً إنسانياً لحوار الحضارات في العالم.
والرسالة الثانية ضرورة أن يقوم الأزهر بنقد التفسيرات الإرهابية المغلوطة للقرآن الكريم، وأبرزها أن كل من لم يؤمن بالإسلام يجوز قتاله في الداخل والخارج.
والرسالة الثالثة والأخيرة هي الأهمية القصوى في مجال السنّة للانتقال من نقد «السند» إلى نقد «المتن»، لأن هناك متوناً تجاوزها الزمن، ولم تعد تصلح لتوجه السلوك الإنساني في الحقبة التاريخية المعاصرة.
* كاتب مصري |