«القول بتقسيم سورية ليس سوى اجترار للأوهام»، عبارة تسمعها من سوريين يعتبرون تفكيك وطنهم إلى دويلات طائفية وإثنية، «واحداً من المستحيلات»... «سورية تمزّقها جماعات تنظر إلى بعضها البعض كأعداء لا كشركاء»، عبارة أخرى تسمعها من سوريين يجدون تقسيم بلادهم واقعاً قائماً ترسم حدوده الخنادق والمتاريس التي يكرسها القتال الدموي المحتدم منذ سنوات.
لكن من يريد تقسيم سورية، ومن له مصلحة في تحويل هذا المجتمع التعدّدي إلى كيانات متشرذمة؟!.
ثمة من يشيرون الى مخططات تديرها أطراف عالمية وإقليمية، غرضها تفكيك المجتمع والدولة وتقاسم النفوذ فيهما للخلاص من العقدة السورية المزمنة، ويعتقد هؤلاء بوجود مصلحة لإسرائيل في التقسيم، حيث أن غياب سلطة مركزية وحضور دويلات صغيرة وضعيفة يمنحانها فرصة غالية لضمان أمنها طويلاً، ولطيّ صفحة الجولان المحتلّ وإحالته إلى النسيان أسوة بمصير لواء إسكندرون! وهناك من يحيلون الأمر الى مصالح الدولتين الروسية والإيرانية، اللتين لا تريدان التفريط، مهما تكن النتائج، بنفوذهما السوري، حتى لو تقلّص إلى شريط يضم العاصمة والساحل ومدن المنطقة الوسطى، مع ما يتطلّب ذلك من توظيف جهود وإمكانات لمده بأسباب الحياة، في حين ثمة من يقرنون الفكرة بعجز المجتمع الدولي عن تمرير حل سياسي يحفظ وحدة الشعب والدولة، واضطراره الى خيار التقسيم كخيار أخير حقناً للدماء ولوقف رحلة الخراب والاستنزاف، مستشهدين بما حصل في البلقان حين لم يكن من بدّ لوقف الاقتتال الأهلي إلا إقامة كيانات سياسية واجتماعية تفصل بين مختلف المكونات.
لكن، ما يضعف هذا الخيار هو إدراك مختلف الأطراف الخارجية أن الصراع الدامي في الخصوصية السورية لن يهمد، وسيستجرّ أعباء ثقيلة واجبة من كل طرف لحماية الكيان المرتبط به وتمكينه، فضلاً عن أنه يصعب تمرير تغيير ديموغرافي أو تقسيم لبلد ما على أسس طائفية وإثنية في منطقة كالمشرق العربي، من دون أن ينعكس ويمتد إلى بلدان الجوار بفعل مكونات عرقية ودينية متداخلة، والقصد حصول الأسوأ وأن لا يفضي التقسيم إلى السلم والاستقرار، بل إلى تصاعد وتمدّد عنف يغذي النزعات الانفصالية، ويتّخذ أشكالاً طائفية أو إثنية معرّضاً استراتيجيات الهيمنة العالمية لأضرار فادحة، ما يفسّر رفض المجتمع الدولي محاولات تقسيم بلدان مشرقية بدت سهلة التفكيك في محطات مختلفة، كلبنان إبان الحرب الأهلية 1975 – 1990 ثم العراق بعد الحرب الأميركية 2003، فضلاً عن إعاقته المستمرة لانفصال الأكراد سياسياً في شمال العراق! فكيف الحال إذا كان الضرر قد يلحق بأمن إسرائيل، في حال نشأت الى جوارها قطاعات جهادية متطرفة تنظر إلى القضية الفلسطينية من منظار ديني، أحد وجوهه تحرير المسجد الأقصى؟ وكيف الحال مع تحسّب أنقرة من تأثير التفكك السوري في احتقاناتها الطائفية والإثنية، ربطاً بوجود كتلة كبيرة من الأتراك العلويين ومن الأكراد الذين يخوضون كفاحاً مريراً من أجل الاعتراف بخصوصيتهم وحقوقهم القومية؟!.
واستدراكاً ينهض السؤال، هل وصلت حدة الاستقطاب والتنابذ بين السوريين الى مرحلة لا رجعة عنها، وهل من حوافز لا تزال تشجع هؤلاء المنكوبين على البقاء مجتمعاً واحداً؟!.
ثمة من يرون أن شبح التقسيم ما كان ليطارد السوريين لولا تكريسه عبر صراع دموي وعنف منفلت من تشوّهات وشروخ عميقة، مرجحين صعوبة عودة التعايش بين مكونات غدت اليوم في حالة عداء استئصالي لبعضها، زاد الطين بلة الوزن الكبير الذي باتت تحوزه جماعات جهادية غرضها إقامة دولة الخلافة من دون اعتبار للوطن القائم تاريخياً، مستندة الى المظلومية الإسلامية وغياب بديل سياسي جدير بالثقة يمكن أن يشكّل نقطة جذب وطنية جامعة.
وإذ يستثني هؤلاء بعض القوى السورية التي تحركها دوافع قومية انفصالية، أو أجندة ترتبط بأهداف خارجية، أو تحكمها أيديولوجية دينية عابرة للحدود والكيانات القائمة، فإنهم يعتقدون أن غالبية الأطراف الداخلية ترفض التقسيم، كالنظام الذي يريد إعادة سيطرته كما كانت، وكمعارضة تتطلع إلى التغيير في إطار وحدة الوطن، ويرجحون تالياً بقاء التقاسم المفروض بقوة السلاح من دون أية شرعية سياسية، ولا يغير هذه الحالة، في رأيهم، حصول تقدم عسكري هنا وتراجع هناك، أو انحسار سيطرة النظام إلى مساحة يمكنه حمايتها وإدارتها، طالما لا يزال يحظى باعتراف المنظومة الأممية، وتلجأ الى مناطقه الأقليات الخائفة وقطاع مهم من المسلمين السوريين الذين يناهضون نمط الحياة الذي يفرضه المتطرفون.
وفي المقابل، ثمة من يسخرون من احتمال التقسيم متوسّلين الخصوصية السورية العريقة في حضـارتها وتعايش مكوناتها، وأسباباً تاريخية غلبت مسار الانصهار الوطني على نوازع التفرقة والتمييز، أوضحها قدرة السوريين المتــميزة على التسامح والتفافهم حول مهام وطـــــنية وقومية عريضة أضعفت البنى العصـــبوية التقليدية، وتركت أثاراً إيجابية في تضامنهم واندماجهم، وأهمها أن السوريين، من مختلف المكونات القومية والدينية، لعبوا دوراً متــكاملاً في بناء دولتهم وتاريخها الحديث، وشكلت عـــــندهم قيم المواطـــنة والمساواة قاسماً مــشتركاً لم تزلها، وإن أضعفتها وشوّهتها، الســلطات الاستـــبدادية المتـــعاقبة وأســـــاليب القمع والتمـــييز، التي ســاهمت في إعلاء العلاقات المتخلّفة، الدينية والطائفية والعشائرية، على حســـاب الرابطة الوطنية، زاد الطين بلة تقدّم المد الديـــني خلال العقود المنصرمة، والذي حفر عميقاً في المجتمع السوري المأزوم وباعد بين ثقافات طالما تعايشت وتسامحت مع بعضها.
والحال، هي فرصة ثمينة أن تشكّل التوازنات والمصالح الراهنة على الصعيدين الخارجي والداخلي، عائقاً موضوعياً يلجم تفكيك الوطن، ما يفسح المجال لتقدّم إرادة أممية توقف العنف، وتضع الملف السوري على سكة معالجة سياسية تحافظ على وحدة الدولة والمجتمع، وتؤسس لتغيير ينسجم مع القيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، مستقوية بتخوّف الجميع من النتائج السلبية إقليمياً للتقسيم، وبحالة الضعف والإنهاك التي وصلت إليها مختلف الأطراف المتصارعة. |