يقتضي العمل الفكري الإيديولوجي والسياسي الحي، اعتماد عدد من المفاهيم يتم اللجوء اليها عندما يجد نفسه أمام مفترق طرق مصيري، لإعادة الحياة الى المشروع الذي تحمله، هذه القوة او تلك، حتى تكون مؤهلة للاستمرار في الفعل الايجابي، على الساحة التي تنشط فيها. ويبدو ان مفهوم النقد الذاتي من بين هذه المفاهيم الاساسية التي لا غنى عنها، متى كانت هناك لدى الفاعلين، نخبة فكرية وأيديولوجية كانوا او نخبة سياسية، ارادة الفعل واستمراره داخل المشهد الفكري الثقافي او السياسي التي تمارس فيه وضمن شروطه الخاصة.
وكثيراً ما يشكل النقد الذاتي مرحلة فاصلة بين ما قبلها وما بعدها، ليس الى درجة تمكن من القول: انها تجب ما قبلها، غير انها تتميز عنها، بالتأكيد، بصورة جوهرية سواء على مستوى التصورات، اذا كانت هي المعنية أساساً بالمراجعة والنقد الذاتي، او على مستوى الممارسة السياسية متى انصب هذا النوع من النقد الخاص عليها في عدد من أبعادها او في مجملها. ووظيفة النقد الذاتي أساساً استخلاص دروس تجربة الماضي، منظوراً اليها من زاوية رصد أخطائها وانحرافاتها. وهذا امر ممتنع من دون القيام بمقاربة شمولية لتلك التجربة، لا تترك فيها اي مجال من دون النظر فيه، واليه، بعين نقدية فاحصة، لتفادي تكرار الأخطاء المرتكبة، وتطوير الجوانب الصائبة منها بما يعزز مواقع ممارسي النقد الذاتي على المستويات الفكرية الايديولوجية والسياسية، في آن واحد. وهذا يصدق، بالأساس، بالنسبة الى كل القوى والجماعات الفكرية والسياسية السوية التي تعتمد مبادئ العقلانية والواقعية واستشراف المستقبل انطلاقاً من معطيات الواقع، وإكراهاته الفكرية والسياسية.
وهــذا يــعــني ان الجماعــات الايديولوجية المنغلقة على ذاتها وداخل شرنقة معتقداتها، تستعصي عليها ممارسة النقد الذاتي لأنه، في الواقع، بمثابة معول هدم لصروحها وكياناتها، لذلك فإنها تلجأ، في الأغلب الأعم، في سبيل تفاديه الى محاولة تبرير آرائها المغلقة او ممارساتها غير السوية إلى تحميل خصومها وأعدائها مسؤولية كل ما يحدث لها ويلحقها من هزائم في مختلف المجالات. وبهذا تعطي نظرية المؤامرة في تفسير قصورها الذاتي وإخفاقها البيّن سلطة وهمية ليست لها، في الواقع، في محاولة منها بناء جدار الصد امام كل تفكير يطعن في مسلماتها الفكرية الايديولوجية، ويخلخل بنى ممارستها الرتيبة الجامدة، التي تضعها خارج عصرها، ومقطوعة الجذور مع الواقع الاجتماعي والثقافي الحي. وكأن لسان حالها يقول: ان تكون موجوداً ولو من دون تأثير فعلي حقيقي، في مجريات الواقع، خير من ان لا تظل موجوداً على الإطلاق. على اعتبار ان القبول بمبدأ النقد والنقد الذاتي يعني القبول بالتلاشي، عاجلاً او آجلاً، لأن المنظومة الفكرية المنغلقة التي توجه هذه التيارات لا تترك لها مجالاً للقبول بما لم تفرزه هي ذاتها من افكار وسياسات. ويصدق هذا بطبيعة الحال، على كل الأفكار والسياسات والتنظيمات المنغلقة، اليمينية واليسارية، الوعية والمذهبية والدينية على حد سواء.
وبالتالي، فأن يبادر تنظيم او مؤسسة ما بممارسة النقد الذاتي يعني الإدراك العميق لمختلف جوانب الفكر والممارسة التي تم اعتمادها في السابق والتي لم تكن متناسبة مع شروط المرحلة، الأمر الذي أدى الى عدم تقدمها في تحقيق أهدافها او الانتكاسة في مسيرتها الرامية الى تحقيق تلك الأهداف. قد يعود السبب، في ذلك، الى خلل ما في المنظومة الفكرية التي تم اعتمادها من حيث عدم اتساق منطقها الداخلي الناظم كما قد يعود الى تجاهل بعض معطيات الواقع تماماً او عدم ادراك حجم تأثيرها في تحديد مسارات الممارسة في هذا الميدان او ذاك. كما انه قد الى كل هذه العوامل مجتمعة في اطار شروط موضوعية وذاتية مناوئة لحاملي هذا الفكر او ذاك.
وبطبيعة الحال، فإن النقد الموجه من الغير الى المنظومة الفكرية والممارسة السياسية اليومية، لهذا التنظيم او ذاك، قد يلعب دور المحفز على تعامل نقدي ذاتي مع المستويين معاً بخاصة اذا ترافق نقد الغير مع استعصاء تحقيق الأهداف المنشودة، ونشأ لدى هذا التنظيم او ذاك شعور بأن النقد الموجه إليه ليس الترجمة الخالصة لمناهضة تلك القوى لها وإنما يقوم على معطيات في صلب تفكيرها وممارستها هي بالذات.
وعلى عكس هذه الاستجابة الإيجابية للنقد الآتي من خارج المنظــومـة الفـــكرية او التنظيم السيــاســي، فالمنظـــومة الفكرية والسياسية المنغلقة تتعامل بعصبية واحتقان مع كل نقد يتم توجيهه إليها، وتعمل على مواجهته، بكل الوسائل الممكنة باعتباره الترجمة الفعلية على وجود مؤامرات تحاك ضدها، وهو ما يدفعها الى التشبث بمنظومتها الفكرية والسياسية إلى أن تتحول إلى عائق بنيوي امام تطورها، ويكون أوان إصلاحها قد ولى، الى درجة ان الاقدام على ممارسة بعض النقد الذاتي يؤدي الى تفكيكها وانهيارها بدل المساهمة في إصلاحها.
إن كل القوى الفكرية والسياسية يمكنها ممارسة النقد الذاتي من الناحية المبدئية،غير ان الواقع يفيد بأن المنظمات التي تمارسه تكون عادة منظمات مرنة ومفتوحة على مختلف الأفكار التي تخترق المجتمعات التي تُمارس داخلها، في حين ان التنظيمات الأيديولوجية المغلقة على نفسها تحرم نفسها منذ المنطلق من الاستفادة من هذه الإمكانية التي تساعد على تجديد حياتها وعندما تحاول ممارسته يكون الخرق قد اتسع على الراتق.
* كاتب مغربي
|