غير كونها كاتبة رائقة الأسلوب، وغير فرادة شخصيتها التي تجمع الطرافة والالتزام، بين حب القطط والتدرب على رقصات غربية مثلاً، والنضال السياسي والحقوقي، رزان زيتونة هي التي حولت نشاط حقوق الإنسان إلى مبدأ ثوري في سورية.
في العقد الفاصل بين «ربيع دمشق» والثورة، كان نشاط حقوق الإنسان يتحرك في دوائر نخبوية، ينشط فيها معتقلون سياسيون سابقون ومثقفون، مُجهَدون وبلا عزم، ومفتقرون إلى أفكار نظرية وعملية جديدة. وتكاد الانتهاكات التي ترصدها تلك المجموعات الحقوقية تقتصر على اعتقال أشخاص من هذه الدوائر أو منعهم من السفر، والنشاط الحقوقي بمجموعه كان ملحقاً بالنشاط السياسي المتاح وقتذاك، وقد عبر عن نفسه في تلك السنوات بلغة حقوقية فاقمت من امحاء الحدود بين مجموعات حقوق الإنسان والأحزاب السياسية. وهو واقع تمثل في حينه في أنه كان لكل مجموعة سياسية تقريباً منظمتها الخاصة لحقوق الإنسان، فكانت هناك منظمة مرتبطة بـ «الإخوان المسلمين»، وأخرى كردية، وثالثة أقرب إلى التجمع الوطني الديموقراطي وقتذاك. كان العسر الشديد في أنسنة السياسة يقود بخط مستقيم إلى تسييس الإنسان.
كان هذا النشاط يفتقر إلى الشغف والالتزام الحي من جهة، ويتجاهل القضايا الاجتماعية والسكان اللامرئيين من جهة أخرى. رزان زيتونة هي التي نقلت نشاط حقوق الإنسان من هذه الدوائر الضيقة إلى المجال الاجتماعي، ما يتصل بطرد سكان من منازلهم القريبة من مركز المدينة، ما يتصل باعتقالات وتعذيب تطاول سلفيين في البلدات والأحياء الأفقر حول دمشق، ما يتصل بانتفاضة الكرد السوريين في آذار (مارس) 2004، وفعلت ذلك دوماً بحرارة وعزم. كانت تزور أسراً فقيرة في بلدة العتيبة مثلاً، تلتقي بأمهات أو زوجات معتقلين في سجن صيدنايا، وتكتب تحقيقات عن أوضاع المعتقلين السلفيين الذين لم يكن يعلم أحد عنهم شيئاً وقتذاك، وهو ما قادها إلى متابعة المواقع الجهادية وتطوير معرفة لا نظير لها بهذه الشؤون في سورية، تجمع بين الميداني والنظري.
الإنسان هو كل الناس وليس بعضهم ممن يشبهوننا، وهو غير المرئيين والمهمشين والمحتقرين أكثر من غيرهم. هذا ما عملت رزان على تحقيقه، وما شكل جسراً نحو عملها اللاحق منذ بداية الثورة. إحساسها الاجتماعي والتزامها السياسي هو ما جعلها متأهبة منذ الأيام الأولى للمشاركة في تأسيس لجان التنسيق المحلية، وهي إطار لتنظيم الأنشطة الاحتجاجية ولتغطيتها إعلامياً، ولتقديم رؤى ومواقف سياسية، ثم واحدة من أوسع شبكات الإغاثة في سورية، ودوماً من دون تمييز بين متلقي المساعدات على أسس عقدية أو سياسية، مثلما كانت تفعل المجموعات الإسلامية منذ البداية وبوعي. عملت رزان دوماً في أطر جماعية، فلا هي كانت يوماً الناشط «المستقل» الذي يحمل وراءه تجارب سياسية خائبة، ولا هي وجدت في المتاح من التنظيمات السياسية المتعبة مكاناً يناسبها. وفي العمل الجماعي كان زوجها وائل حمادة وصديقهما ناظم حمادي سندين ثابتين، بين كثيرين آخرين. وخلافاً للمألوف، ومن دون أن يكون الأمر إشكالياً في أي وقت، كانت رزان دوماً في موقع القيادة.
وغير الحس الاجتماعي القوي، وإرادة العمل الجماعي، طورت رزان عبر السنين شبكة من العلاقات القوية بالمنظمات الحقوقية الدولية، استفادت منها في تطوير كفاءتها المهنية والتنبه المبكر إلى أهمية التوثيق استفادة من دروس سوابق مثل البوسنة ورواندا. ولها الفضل الأول مع وائل وناظم وآخرين يتعذر ذكرهم حالياً، في تأسيس مركز توثيق الانتهاكات، الذي كان الجهة السورية الأكثر تدقيقاً في توثيق شهداء الثورة، بالأسماء، وبالصور والفيديوات بقدر المستطاع. كانت رزان تقضي الساعات الطوال في تفحص الفيديوات لتتأكد من صحة ما فيها، ولتضمن عدم تكرار الأسماء، سهواً أو تدليساً متعمداً.
وإلى ذلك كله، أظهرت رزان تكرّساً لا يجارى للعمل منذ بداية الثورة. توارت في دمشق منذ الأيام الأولى، وكانت تخصص يومها كله للعمل، الكمبيوتر في حضنها أو أمامها على الطاولة، وهي تنسق عمل لجان التنسيق المنتشرة في معظم مناطق سورية، وتجمع المعلومات وتنظمها وتتوثق منها. ولم يمنعها ذلك من المشاركة الشخصية في تظاهرات عدة في 2011 و2012. رزان كانت معروفة في برزة وكفر سوسة والقابون وحرستا وغيرها، كمتظاهرة نشطة، ولها في هذه الأحياء كلها أصدقاء وشركاء في العمل العام.
نالت رزان جائزتين دوليتين مهمتين على عملها الحقوقي، لكن هذا لم يدر رأسها، وضعته خلفها ولم تلتفت.
وبعد كل هذا تتمتع رزان بصلابة شخصية نادرة. لا تتحدى أعرافاً مقررة في المجتمع حولها، لكن تقاوم بشجاعة أن تُفرض عليها هذه الأعراف. مظهرها مظهر امرأة عاملة، منشغلة جداً بعملها. لا أذكر أنني رأيت قوامها النحيل يوماً في غير بنطال الجينز، مع قميص أو كنزة متواضعة. في دوما ارتدت هي وسميرة معطفين يصلان إلى الركبة. هذا ما كانتا مستعدتين للقيام به تعبيراً عن احترام محيطهما، وكانتا تتوقعان منه احتراماً مقابلاً. توقع في غير محله، ينبغي القول للأسف. كان التدين أخذ يُستثمر كمشروع سلطة، وظهرت معه ملحقاته الاجتماعية العسكرية، حيث الفظاظة والغلظة ترتفعان إلى مستوى واجب ديني.
ومن سخريات المصير أن من خطفوا رزان هم سلفيون، كانت هي أول من دافع عن حقهم في العدالة. ميليشيا السلفي زهران علوش الذي يبدو أنه يجرى تلميعه اليوم على عجل، هي من غيب زهران، وسميرة ووائل وناظم، منذ نحو عام ونصف. من وسعت مفهوم حقوق الإنسان ليشمل إنسانيتهم ويحترمها، أنكروا عليها الحرية والحق في أن توجد. هذا مسلك خارق في خسّته بما يكفي ليكون بطله رمزاً للنذالة.
لكن في قصة رزان، ومعها سميرة ووائل وناظم، الكثير من الكثافة الرمزية ومن طبقات المعنى، ما يشكل الشغل عليه أساساً لثورة عميقة، ثورة في المجتمع والثقافة والأخلاقيات. برموز مثل رزان ومثل سميرة، ومثل وائل وناظم، وكثيرين آخرين، لدينا منبع فياض من المعاني والدلالات والقيم، ما يؤسس لفكر جديد وضمير جديد، ولإنسان جديد.
* كاتب سوري |