الجمعه ٢٩ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: أيار ١٧, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
إعادة اختراع الدولة - السيد يسين
لم يكن من قبيل الصدفة أن يخصص عالم الاجتماع الفرنسي الكبير بيار بورديو دروسه في «الكوليج دي فرانس» -أرقى المعاهد الأكاديمية في فرنسا- في السنوات الأخيرة للبحث المتعمق في موضوع الدولة.

وكنت محظوظاً في الواقع لأنني كنت في زيارة لباريس حين صدر كتابه «عن الدولة» الذي يضم دروسه خلال عدة سنوات متتالية، وهو الكتاب الذي صدر عام 2012 عن دار نشر Seuil بعد وفاته.

واختيار بورديو موضوع الدولة -نظراً لأهمية استشراف مستقبلها في عصر العولمة- يماثل اختيار «المعهد الفرنسي» بالقاهرة الذي نظم بالاشتراك مع المجلس الأعلى للثقافة في 11 أيار (مايو) 2015 ندوة علمية كبرى شارك فيها أساتذة مرموقون في علم السياسة، من فرنسيين ومصريين، وكان موضوع الندوة «الدولة في إطار العولمة: إعادة تشكيل الدولة في عالم مفتوح».

وقد التفتنا منذ بداية التسعينيات إلى أهمية إدراك وفهم منطق التغيرات العالمية التي بسطت رواقها على مختلف المجتمعات الإنسانية المعاصرة، بحكم عديد من الثورات العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية.

ولعل تزامن هذه الثورات جميعاً هو الذي فتح الطريق أمام عملية كبرى هي ما أطلقنا عليها «إعادة اختراع العالم»! بمعنى إعادة صياغة الأنساق السياسية والاقتصادية والثقافية في ضوء موجهات قيمية جديدة تمام الجدة.

وهذه الموجهات القيمية تمت صياغتها في ضوء استخلاص الخبرة من أحداث القرن العشرين من ناحية، وصعود نماذج معرفية وثقافية جديدة، أبرزها التحول من نظريات «الحداثة» الغربية التي كانت وراء التقدم الإنساني إلى نظريات «ما بعد الحداثة» التي اعتبرت لأسباب شتى أن الحداثة، بصفتها مشروعاً حضارياً غربياً، مرحلة وصلت إلى منتهاها.

وابتداء يمكن القول إن أحد عناصر العقل السياسي الحي، سواء في العالم العربي أو في العالم عموماً هو القدرة على استيعاب الجديد الذي يحدث على الساحة السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم.

وعملية الاستيعاب الفكري مسألة معقدة، فأول ما تتطلبه الرصد الدقيق للمؤشرات التي تعكس التغير في السياسات والمواقف والاتجاهات، غير أن الخطوة التالية هي تصنيف هذه المؤشرات وفق نسق تحليلي بصير توجهه نظرية عامة قادرة على النفاذ إلى لب الوقائع والأشياء لتفسيرها. والتفسير ليس هو العملية الأخيرة في الاستيعاب، بل إن التكيف الفكري مع المتغيرات الجديدة مسألة حاسمة في حيوية العقل السياسي المعاصر.

وإذا كنا تحدثنا من قبل عن الخيارات المفتوحة أمام صناع القرار والمجتمعات عموماً بين التعديلات الجزئية في المواقف والمراجعة الشاملة لأنساق القيم السياسية والاقتصادية والثقافية السائدة، فإننا اليوم –في ضوء التطورات العظمى التي حدثت من التسعينات حتى اليوم- نؤكد أن التعديلات الجزئية لن تصلح، وأننا –على مستوى الثقافات والمجتمعات كافة– في حاجة إلى مراجعة شاملة.

ومرد هذه المراجعة الشاملة إلى أن التحولات في بنية المجتمع العالمي كانت أشبه بفيضان عظيم، لم تتوقف موجاته المتتابعة عن التدفق، ولو أردنا أن نحصر هذه التدفقات الكبرى لقلنا إن أهمها على الإطلاق هي الثورة الكبرى في مجال الاتصال الإنساني بمستوياته كافة، ونعني بين الفرد والفرد، وبين الثقافة والثقافة، وبين الفرد والدولة.

وهذه الثورة مردها إلى الثورة الاتصالية الكبرى، وأبرز تجلياتها البث الفضائي التلفزيوني عبر الأقمار الصناعية، وبروز شبكة الإنترنت التي خلقت لأول مرة في تاريخ الإنسانية فضاءً عاماً جديداً يتم فيه تدفق المعلومات والأفكار وتمارس التفاعلات بين البشر في كل أنحاء المعمورة. بعبارة موجزة، نشأ مجتمع المعلومات العالمي على أنقاض المجتمع الصناعي، وأصبحت وحدة التحليل هي الفضاء المعلوماتي Cyber Space الذي تتم فيه التفاعلات بين أفراد البشر وبين الثقافات المتنوعة. بعبارة موجزة دفعت العولمة بتجلياتها المختلفة المفكرين إلى إعادة اختراع العالم! بمعنى ضرورة صياغته بصورة جديدة في ضوء التغيرات الكبرى التي حدثت، وفي مقدم هذه التغيرات أفول الدولة المعاصرة!

والدولة المعاصرة في الواقع هي ترجمة كاملة لنموذج الدولة الوستفالية، نسبة إلى معاهدة وستفاليا الشهيرة التي صدرت عام 1648 وأسست لنموذج الدولة الحديثة التي تتمتع بسيادة مطلقة على إقليمها، ويستقل قادتها –بغض النظر عن تنوع نظمها السياسية- في اتخاذ القرار في مجال السياستين الخارجية والداخلية على السواء.

غير أن مجيء عصر العولمة بملامحها الرئيسية التي تتمثل في فتح الحدود بين الدول بلا قيود ولا حدود لتدفق الأفكار والقيم والسلع ورؤوس الأموال والبشر، أدى إلى تغير جوهري في طبيعة الدولة المعاصرة، خصوصاً بعد نشوء الاتحادات السياسية الإقليمية، كالاتحاد الأوروبي ومنظمة «آسيان»، لأن ذلك أدى في الواقع إلى تقييد السلطة المطلقة للدولة في اتخاذ قراراتها السياسية والاقتصادية، بحكم أن عملية صنع القرار أصبحت جماعية، من طريق مجلس إدارة الاتحاد أياً كان تنظيمه.

غير أنه إضافة إلى ذلك، فإن الدولة المعاصرة ولو لم تكن عضواً في اتحاد إقليمي يحد من استقلالية اتخاذها القرار، فإنها –بحكم العولمة ذاتها- لا تستطيع أن تصد موجات العولمة المتدفقة، ومن أبرز شعاراتها الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان. بعبارة أخرى لم تعد هذه مبادئ تنفرد الدولة بتقريرها أو تمنعها عن مواطنيها، لأنه نشأ ما يمكن تسميته «المجتمع العالمي»، الذي من حقه أن يضغط على الدول المختلفة، خصوصاً الدول الشمولية أو السلطوية لكي تحقق ما يطلق عليه «التحول الديموقراطي»، أي الانتقال من الشمولية والسلطوية إلى الديموقراطية.

وإذا كان هذا هو الحال بالنسبة إلى الدول الغربية المعاصرة، فإن الدولة العربية المعاصرة لا تستطيع أن تفلت من الضغوط السياسية عليها لكي تقوم بإعادة صياغة هياكلها ومؤسساتها حتى تتوافق مع الوضع العالمي العام.

غير أن الدولة العربية المعاصرة لها في الواقع تاريخ سياسي مختلف عن الدولة الغربية المعاصرة، وذلك لأن الدول العربية في غالبيتها كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية لقرون قبل أن تنتهي الخلافة الإسلامية.

ومن هنا، فهناك خصوصية في الدولة العربية المعاصرة بحكم بقاء بعض ملامح الدول الإسلامية التقليدية.

ويمكن القول إنه لو تتبعنا التطور التاريخي لنشأة الدولة العربية المعاصرة لاكتشفنا أنها خضعت في غالبيتها للاستعمار الاستيطاني، كما حدث في حالة الاستعمار الاستيطاني للجزائر، أو للاحتلال الأجنبي، كما حدث في حالات المغرب وتونس وليبيا والعراق، أو لتدابير الوصاية والانتداب كما حدث لسورية ولبنان.

ومن هنا، يمكن القول إن نقطة الانقطاع التاريخية الحاسمة في تطور الدولة العربية الحديثة تتمثل في حصول الدول العربية على الاستقلال الوطني، سواء من خلال المفاوضات، كما حدث في مصر حين وقع جمال عبد الناصر زعيم «الضباط الأحرار» معاهدة الجلاء مع قوات الاحتلال الإنكليزية عام 1954، أو من خلال الكفاح المسلح كما فعلت الجزائر التي حققت انتصاراً عسكرياً مجيداً على القوات المسلحة الفرنسية، أو من خلال النضال الوطني والمفاوضات كما حدث في المغرب وتونس.

وهكذا نشأت «الدولة الوطنية» التي قامت على أنقاض الدولة العربية المحتلة.

وقد مالت هذه الدولة –من خلال اجتهادات مختلفة- إلى التخلي عن الفكر النهضوي الذي كان يركز على الديموقراطية وعلى حرية التفكير والتعبير، لكي تركز على التنمية من خلال تأسيس نظم شمولية أو سلطوية تعددت نماذجها، وإن بقيت الحقيقة واحدة وهي أن النخب السياسية الحاكمة -سواء جاءت نتيجة انقلاب عسكري كما حدث في مصر والعراق وبعد ذلك ليبيا، أو نتيجة تطور ديموقراطي كما حدث في تونس والمغرب- مارست السلطوية السياسية وقيدت من الحريات السياسية إلى حد كبير، ومن هنا نشأت الفجوة السياسية والطبقية الكبرى بين من يحكمون ومن لا يحكمون، وأخطر من ذلك بين من يملكون ومن لا يملكون!

لقد أدت هذه الأوضاع -التي استمرت عقوداً طويلة من السنين زخرت باحتجاجات جماهيرية شتى وهبات ثورية متعددة- إلى اندلاع ثورات الربيع العربي في تونس ومصر واليمن وسورية، ما أدى إلى انهيار الدولة العربية المعاصرة.
 

* كاتب مصري


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة