على رغم مرور أكثر من أربع سنوات على الانتفاضة السورية، لا يزال الحدث يقدم مشاهد متناقضة ومفجعة، بحيث تستعصي على الفهم لكثرة تشابكها وتعقيداتها، بما يجعلها أقرب الى لوحات سوريالية.
قدم المشهد الأخير لوحة عن تصفيات يقوم بها النظام لرجال كان همهم التفاني في تنفيذ الأعمال القذرة والتفنن في تعذيب وقتل كل من يشكّك في الحكم القائم. بصرف النظر عن دقة المعلومات حول كيفية تصفية رستم غزالي أو ما يقال عن علي المـــملوك، وقبله عن غازي كنعان وآصف شوكت وغيرهم من أركان النظام، فما هو ثابت ان المثال السوري ليس فريداً في بابه في «أكل» النظام لخدمه. فهذه حال معظم الأنظمة الديكتاتورية عندما تدخل في مرحلة الانهيار، وحين يستشعر رجال النظام ان السفينة سائرة نحو الغرق، فيسعى كل واحد الى النجاة بنفسه.
لا يكف النظام ومعه «حزب الله» والإيرانيون عن ادعاءات النصر ودحر التنظيمات المسلحة في أكثر من بقعة سورية. على رغم ان كل مراقب لما يجري يعرف ان الحرب كر وفر، وليس فيها انتصارات ثابتة او هزائم مطلقة. لكن النظام، ولأول مرة ومعه حليفه الأمين العام لـ «حزب الله»، يعترفان بأن خسائر لحقت بهما في الشمال والجنوب، وهو أمر يجب تسجيله والاستغراب لصدوره، لأن ما تعودناه، وفي ظل هزائم فاقعة، هو صدوح نبرة عالية من الانتصارات، الإلهية وغير الإلهية. لكن الإقرار بالهزيمة عزاه النظام وحلفاؤه الى ضخامة الحرب النفسية التي يضخها الأعداء في كل مكان. هذه من الابتكارات الاستراتيجية الحديثة بأن الحرب النفسية تتسبب بخسائر عسكرية على الأرض، وهو ابتكار يستحق التسجيل في خانة الملكية الفكرية.
لا يزال المرء يتساءل عن مآل المعركة ضد «داعش» والتنظيمات التكفيرية. لم يعد خافياً، وبعد صدور معلومات موثقة عن ان النظام هو من أوجد «داعش» على الأرض السورية ورعاها من أجل ان تشكل سنده الأساسي في محاربة المعارضة السورية وجيشها الحر. كما لم يعد خافياً ان «حزب الله» والحرس الثوري الإيراني لم يكن في مخططهم الحرب على «داعش» تطبيقاً لتوجهات النظام. يوماً بعد يوم، يتثبت وبالملموس، ان علاقة جدلية تقوم بين دحر «داعش» وسقوط نظام الأسد. اذا كان «الوحش الداعشي» قد أفلت من مطلقه، فإن دحره لن يكون الا بإسقاط من أطلقه ورعاه. هذه المعادلة بدأت تفرض نفسها لدى كل من يهتم فعلاً بمحاربة الإرهاب، عربياً واقليمياً ودولياً.
بعد كوفي أنان والأخضر الابراهيمي، ها هو المبعوث الدولي الجديد ديميستورا يستنسخ سلفيه. بعيداً عن اتهام المبعوث الدولي بأنه يقوم بتقطيع الوقت في مساعيه، فإنه لم يضع يده بعد على أصل الداء والمشكلة في سورية والمتمثلة بالنظام وأركانه. يحاذر العودة الى ما تحقق في مؤتمر جنيف الأول الذي كان صريحاً في ان كل تسوية لا بد ان يكون بشار الأسد خارجها. لعل المبعوث الأممي بات يدرك ان أوان التسوية السورية لم يحن بعد، وان المبادرة لا تقع في يد النظام السوري أو المعارضة، بل يمكن الجزم بأن هذين الطرفين هما الأقل فاعلية في أي تسوية قادمة. مهم ان لا يقع المبعوث في فخ أوهام الانتصارات العسكرية او الهزائم ليبني عليها خطة للحل السياسي. فما يحصل في سورية عسكرياً إنما يقع في باب تعديل التوازنات على الأرض تمهيداً لتسوية ما، وان الحسم العسكري النهائي، سواء من قبل النظام او المعارضة أمر ممنوع بالمطلق. فالحرب يجب ان تتواصل الى ان تنضج طبخة التسوية الدولية الإقليمية.
أخيراً، من حق اللبنانيين ان يتساءلوا باستغراب عن موقف «حزب الله» وانخراطه في الحرب السورية. والاستغراب الأكبر يتصل باعتبار الحزب انخراطه في معركة القلمون مسألة مصير لوجوده وللنظام الذي وظف مقاتليه في خدمته. اذا كان الحزب قد فقد كثيراً من شعبيته اللبنانية والعربية التي بناها في مقاومته لإسرائيل، فإن الحلقة الأخيرة من التورط ستفاقم النقمة عليه، وستكون لموقفه ارتدادات سلبية في الداخل اللبناني. بصرف النظر عن حسابات الحزب لهذه المعركة ووهم الانتصار فيها، فإن ما يدعو للأسى ان الحزب سيتكبد خسائر بشرية يعز على أي لبناني وعربي ان تسقط دفاعاً عن نظام استبدادي، في وقت كانت هذه القوى تخوض أشرف المعارك في وجه العدو الصهيوني.
تلك عينة من لوحات يقدمها المشهد السوري تصب جميعها في تقديم مصير أسود تعيشه سورية شعباً ومجتمعاً وحجراً، وسط شلال من أنهر الدماء لا قعر مرئياً لنهايتها. |