ينتمي قرار القاضي العسكري اللبناني الحكم على ميشال سماحة بالسجن أربع سنوات ونصف السنة إلى مجموعة وقائع غرائبية يشهدها إقليمنا في الآونة الأخيرة. موت رستم غزالة، والشائعات حول علي المملوك، والمعارك الغامضة في القلمون، والغارات الإسرائيلية على مواكب مجهولة في سورية.
القرار يصعب على التفسير، ذاك أن نفوذ حزب الله أو النظام السوري في القضاء في لبنان لا يكفي لفهمه. الأرجح أن سماحة ليس قضية رابحة، وأن كلفة القرار أكبر من أهمية نتائجه. ووفق هذه المعادلة يجب أن نذهب في تفسيره إلى ما «بعد بعد» حاجة محور الممانعة إلى سماحة حراً. هذا ما زخّم عمليات التوقع، وأعاد الاعتبار لمخيلة جامحة في تفسيراتها، سبق أن استعرضت صوراً لرستم غزالة قبل موته «مفسوخاً»، وما ذهبت إليه المخيلات في قصة إماتة رستم كان أقل مما ذهبت إليه القصة الحقيقية.
«يريدون الإفراج عن ميشال سماحة لقتله خارج السجن»، هذا ما ذهبت إليه بعض التوقعات، وهذا السيناريو على جموحه ومنسوب خياليته المرتفع لا يبدو مستبعداً، ذاك أن لا جواب شافياً حتى الآن عن السؤال: ما الحكمة من تبرئة رجل شاهد اللبنانيون، والعالم، الفيديو الذي يأمر فيه عميله أكثر من 10 مرات أن يقتل وأن يُفخخ ويُفجر وأن يستهدف إفطارات ومفتين وسياسيين!
لكن هذا التوقع، أي الرغبة في قتل سماحة بعد الإفراج عنه، لا يكفي لتفسير القرار، ذاك أن فضيحة تبرئته تبقى أكبر كلفة، لا بل أوضح من الجريمة المصورة التي ارتكبها الرجل. الحبكة البوليسية مضحكة لشدة ركاكتها ووضوحها، ولا يبدو أن مقمشها يتمتع بخيال كافٍ لبث الشكوك.
علينا هنا أن نتذكر. غازي كنعان قال في اتصال مع إذاعة صوت لبنان قبل يومين من موته: «هذه المرة الأخيرة التي ستسمعون فيها صوتي». ولم يكترث قاتلوه بأن حكاية انتحاره لن يُصدقها أحد. قرار قتله نُفذ من دون أي شعور بضرورة إقناع أحد برواية أخرى. رستم غزالة مات بـ «مرض غريب»، وبالنسبة لقاتليه ليس مهماً كل الوقائع التي سبقت موته. إحراقه المصور لقصره، وقرار عزله قبل موته! لقد مات بـ «مرض غريب»، وفي اليوم التالي كان على كتبة المقالات في الصحف اللبنانية، أن لا يشككوا بذلك، ولكن أن يبدأوا مشوار تخوينه و «فضح فساده».
من غير المطلوب أن نُصدق، فقط علينا أن نُكرر الرواية التي لم نُصدقها. قرار تبرئة ميشال سماحة قرار عادل والفيديو الذي شاهدناه ليس مهماً. فلنشاهده ليلاً، ولكن في الصباح علينا أن نُكرر وراء القاضي أن ميشال سماحة بريء. والقاضي يعرف أننا لم نُصدق قراره، وهو لم يُصدر القرار بهدف أن يُصدقه أحد. القرار صدر لأن سماحة يجب أن لا يكون في السجن. الأكلاف غير مهمة، ولا قيمة من المطلوب مراعاتها أو احترامها. فقط المطلوب أن نُردد في الصباح ما يعرف القاضي أننا غير مُصدقيه.
هذا هو المضمون الفعلي لعلاقة هذه الثقافة بجمهورها. الإخضاع وليس الاقتناع، ثم يأتي بعد الإخضاع الانخراط في القطيع، وبعد ذلك في الأجهزة ثم في المهمات، إلى أن يحين موعد الفضيحة، لندخل بعدها في الموت وفي الغياب والتخوين.
والحال أن النظام في سورية وفي لبنان، يدير أزمته منذ أربع سنوات وفق هذا المنطق. لا قيمة لكل الوقائع، واللعب كان مكشوفاً إلى حدٍ مذهل. كل العالم يعرف أن بشار الأسد على استعداد لقتل ملايين السوريين. كل من صادفناهم من حلفائه قالوا لنا إن الثورة لن تنجح لأننا أمام نظام على استعداد لأن يفعل ما يفعله اليوم. قالوا ذلك من دون أن تعني قناعتهم هذه أن مَن هذه حاله يجب الابتعاد عنه. إذاً لماذا الذهول بقرار تبرئة رجل ارتكب جريمة مصورة؟
ثم إن القول بأن قرار تبرئة ميشال سماحة سيعني لأي إسلامي سني أن «القاعدة» أو «داعش» هي الخيار في مواجهة هذا الوضوح في الاستهداف، لا يعني شيئاً، فهذه المعادلة التي عمل بموجبها النظام في سورية في السنوات الأربع الأخيرة، وهي ما يعتقد أنها سبب بقائه واستمراره في ملحمة القتل اليومي.
نعم هناك مئات الإسلاميين في السجون اللبنانية أمضوا سنوات طويلة من دون محاكمة، بعضهم مرتكب وبعضهم بريء، وهؤلاء وأهلهم وأقاربهم سيضعهم قرار تبرئة سماحة أمام «القاعدة» وأخواتها وجهاً لوجه. سهولة تبرئة سماحة تدفع إلى الاعتقاد أن هذه الحقيقة أحد أهداف القرار.
إذاً أصبحنا أمام احتمالين، الأول إخراج سماحة من السجن بهدف قتله والتخلص من أثقاله، والثاني دفع البيئة التي كانت متفجرات سماحة ستستهدفها إلى مزيد من التطرف. وبما أن الخيال خصب في ما يتعلق بالنظام السوري اللبناني، يمكننا أن ندمج الاحتمالين، فنقول: الإفراج عن سماحة ثم تنظيم اغتياله عبر واحد من أولئك الذين خُصبت راديكاليتهم بحقائق من نوع الإفراج عن سماحة.
مجتمعاتنا مستجيبة لهذا النوع من الإدارة والتوجيه، وسبق أن اختبر النظام السوري ذلك عشرات المرات، ونجح في اختباراته. في نهر البارد فعل ذلك، وفي قتال الأميركيين في العراق، وفي سورية في السنوات الأربع الأخيرة، وفي اغتيال الحريري جيء بإسلامي سني لينفذ المهمة.
ثم إن تكراره وحلفاءه دورة القتل هذه لا ينطوي على عبقرية مجرم، إنما على شعوره بالتخفف من أي التزام تجاه عقول وأخلاق مؤيديه. فمعرفتنا أن وراء قرار تبرئة سماحة رغبة في إنجاز مهمة لا تتعلق بحرية الأخير إنما استدراج عنف وتطرف، لا تعني أن على القاضي أن يتردد في إصدار حكم البراءة. والذاكرة السمكية لمجتمعات الأنظمة المستبدة لن تستحضر واقعة التبرئة هذه عندما تبدأ بتفسير أسباب صعود «القاعدة» وانتصاراتها. ستتولى المذهبية مهمة امتصاص ما يمكن أن يتسرب من الذاكرة.
هذا ما جرى منذ اليوم الأول للثورة في ســورية. الجميع كان يقول إن النظام يريد خصوماً متطرفين، وأن أعداءه الفعليين هم المتظاهرون المدنيون. أنجز المهمة في سورية، أمام أعين الجميع. وها هو اليوم يُبرئ ميشال سماحة أمام أعين الجميع، والنتيجة ستكون مشابهة. |