يشكل التدين السائد والمتنامي البيئة الأساسية لنمو الجماعات الدينية وانتشارها، ولا يمكن فهم الجماعات من غير فهم الظاهرة الدينية، وفي السياق نفسه لا يمكن الحديث عن الإصلاح إلا في ظل بيئة اجتماعية تحتضن الإصلاح كما احتضنت الظاهرة الدينية الجماعات، وكما أن مواجهة التطرف تقوم على تفكيك البيئة الراعية فالإصلاح يقوم على فهم بيئة ملائمة واستهدافها، كيف يكون للإصلاح قواعد اجتماعية تدركه وتتحرك باتجاهه وتسعى إلى التأثير في الدولة والسوق بما يحققه ويحميه؟ ف السلطات السياسية ليست كافية لإدارة الإصلاح وإن كان دورها أيضاً شرطاً ضرورياً، فلا يمكن الإصلاح أن ينجح أو يترسخ إلا في ظل مصالح اقتصادية واجتماعية تتشكل حوله، لأنه (الإصلاح) ليس أيقونة أو فكرة جميلة تحميها الحكومات أو الجماعات، وليس قيمة عليا مثالية تضحي لأجلها الشعوب ويموت الأبطال.
هكذا يمكن النظر بريبة وحذر إلى التقدم الصيني المرتبط بسلطة سياسية قاهرة، والاطمئنان أكثر إلى النموذج الهندي حتى وهو بطيء مشوب بالعثرات والتحديات، لسبب بسيط هو أن التقدم الذي تقوده السلطة لا تمكن المحافظة عليه لفترة طويلة، وإذا كانت هذه السلطة مستبدة فإنها تهدد إنجازاتها بالانهيار أو الترهل على الأقل، وفي المقابل فإن التقدم الذي ترعاه مصالح اقتصادية واجتماعية ظل قادراً على الاستمرار وتطوير وتصحيح نفسه على مدى قرون من الزمن.
يشبه النموذج الصيني القائم الاتحاد السوفياتي الذي استطاع أن يدير تقدماً إنتاجياً وصناعياً وتعليمياً منذ بدء الثورة البلشفية، ولكنه تقدم بدأ يتعرض للإعياء والترهل بعد أربعة عقود من الثورة ثم الانهيار الدراماتيكي المصحوب بذاكرة اعتقال وقتل وتهجير عشرات الملايين... وفي نموذج جزئي أدارت السلطات العسكرية القومية في الجزائر ومصر والعراق تقدماً ثقافياً وتعليمياً وإنتاجياً ومؤسسياً، لكن ذلك كله تبخر بل وتحول إلى مشروع مضاد للتقدم والتنمية. وفي المقابل، فالنموذج الغربي استطاع أن يحافظ على زخمه وقدراته في النمو أو الصمود على مدى قرون من الزمان، بريطانيا تدير حالة من الرخاء والاستقرار منذ 1688، والولايات المتحدة منذ 1776، ومثلها سائر النماذج الأوروبية واليابانية... وحتى في حالات الانتكاس السياسي أو الركود الاقتصادي أو الكوارث فقد كانت هذه النماذج تملك من الحيوية ما يساعدها على المراجعة والتصحيح، لأنه وببساطة عقد تقوم عليه منظومة شاملة من الأفراد والمجتمعات والأسواق تنشئ الإرادة والمنظومة السياسية، وليس تقدماً تنشئه إرادة سياسية أو يتوقف عليها كما في النموذج الصيني والسوفياتي والمصري الناصري والعراقي والسوري البعثي والجزائري القومي...
على هذا الأساس، يمكن تقويم ومراجعة المبادرات الإصلاحية العربية التي تجلت في الربيع العربي، فقد كان أسوأ ما أصابها انفصالها عن حياة الناس ومصالحهم أو تناقضها مع مصالحهم إن كانت ضرورية أو مشروعة بالطبع، ذلك أن الإصلاح يقوم أساساً على تحسين حياة الناس وتطوير مصالحهم وتعزيزها، ويجب أن يحكم العمل الاجتماعي والثقافي والعام على نحو دائم وهاجسي كيف يحسن حياة الناس ويزيد مواردهم ويجددها... لا يحتاج الإصلاح إلى أولئك المتحالفين مع الأوليغاركية في الصباح، ثم ينضمون في المساء إلى برامج المعارضة والنشاطات الفكرية والثقافية والفنية والعمل التطوعي وخدمة المجتمع... فإذا لم تؤد المشاركة العامة والاجتماعية والثقافية إلى إصلاح في علاقات التأثير والنفوذ والعمل والإنتاج وتوزيع الموارد فإنها تتحول إلى دعم الفساد والهيمنة وتعزيزهما وتمنحهما مزيداً من الصلابة والتماسك، أو تتحول إلى زينة غير ضارة.
والحال أن ثمة أفكاراً مهمة وملائمة تقدم في المبادرات وفي وسائل الإعلام والندوات، لكن الفئات المفترضة لتستهدفها هذه الأفكار غائبة. والإصلاحيون سواء كانوا في السلطة أو في المعارضات والجماعات والأحزاب أو الأسواق والمصالح الاقتصادية، يتحداهم سؤال لا مفر منه، كيف ينشئون شبكة حقيقية يعرفون بها أنفسهم وينشئون لها جمهوراً وقواعد اجتماعية تعرف بوضوح مصالحها وما تريده وتسعى إليه، وتعرف أيضاً روادها وملهميها على النحو الذي يقدم قيادات اجتماعية تعبر عن هذه المبادرات والمصالح.
* كاتب أردني |