الثلثاء ٢٦ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: نيسان ٢٨, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
نحو مؤتمر وطني فلسطيني - ماجد كيالي
من المؤكد أن هذه ليست الظروف المثالية لطرح فكرة عقد «مؤتمر وطني فلسطيني»، يستهدف وضع الأسس لإعادة ترتيب أحوال الفلسطينيين وكياناتهم الجمعية (المنظمة والسلطة والفصائل)، والتمهيد لتوليد حالة سيــاسية جديدة، على صعيد الرؤى وأشكال العمل ووسائل الكفاح، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو متى كانت ظروف الفلسطينيين مثالية؟ أو إلى متى سيبقى وضعهم على هذه الدرجة من التكلّس والضياع والتبلّد التي لا تفضي إلا إلى التآكل والاهتلاك؟

في الواقع ثمة مشروعية لعقد مثل هذا المؤتمر أكثر من شرعية أي شيء آخر في الساحة الفلسطينية، بل إن هذه الدعوة تبدو متأخّرة جداً، ربما بمقدار عقدين أو عقد على الأقل، مع علمنا أن كل الكيانات القائمة، كاللجنة التنفيذية للمنظمة ورئاسة السلطة والمجلسين الوطني والتشريعي، انتهت شرعيتها منذ زمن طويل، وتآكلت فاعليتها، منذ زمن أطول، بحكم التركيز على السلطة، التي لم تصبح دولة حقاً، وبواقع تهميش المنظمة، واحتكار الطبقة السياسية المسيطرة التقرير بالقضايا المصيرية للفلسطينيين المحرومين من وسائط التعبير عن رأيهم، أو المشاركة في تقرير خياراتهم الوطنية.

وبالطبع، فإن الحال ذاتها تنطبق على التشكيلات الفصائلية السائدة التي تبني هيئاتها القيادية شرعيتها على علاقات الهيمنة التي رسّختها عبر زمن، علماً أن ثمة أمناء عامون بات لهم في هذا المنصب أكثر من أربعة عقود، وثمة هيئات قيادية لا تتزحزح من مكانها، بسبب انعدام الحراك الداخلي، وسيادة علاقات الولاء والمحسوبية، في فصائل باتت حياتها الداخلية تنتظم وفقاً للوائح «التفريغ».

الأهم من ذلك أن معظم الفصائل باتت فاقدة شرعيتها، ومبرّر وجودها، فبعد أن لم تعد تفعل شيئاً في ميدان الكفاح ضد إسرائيل فقدت ما يسمى «الشرعية الثورية»، وبعد أن لم يعد لها مكانة في مجتمعها باتت فاقدة شرعيتها التمثيلية، وفوق هذين فمعظم الفصائل السائدة ليس لها هوية معينة، لا سياسية ولا فكرية، سوى كشف الرواتب والعلاقات الوظيفية مع النظام السوري، بعد انتهاء نظامي القذافي وصدام.

أما من الناحية السياسية، فإن ضرورة عقد مؤتمر كهذا تتأتّى ليس فقط من إخفاق خيار الارتهان لعملية التسوية لأكثر من عقدين، كما تمثلت باتفاق أوسلو الذي قامت السلطة على أساسه، مع عجزها، أو عدم أهليتها، عن طرح أية خيارات بديلة من الناحية العملية، إذ هي تتأتى، أيضاً، من تقادم الشعارات والبني السياسية وطرائق الكفاح التي اعتمدت في الساحة الفلسطينية، طوال نصف قرن.

فوق كل ذلك، فإن ضرورة مثل هذا المؤتمر تنبع من تغيّر أحوال الفلسطينيين واختلاف ظروفهم السياسية والاجتماعية، لا سيما مع ازدياد مسارات تفكّك مفهومهم عن ذاتهم كشعب، وتراجع إدراكاتهم لمصيرهم المشترك، بحكم تبدّد إجماعاتهم الوطنية، وافتقادهم إطاراتهم الجمعية، وتفتت مجتمعاتهم، بخاصة بعد الكوارث التي مُنيت بها تجمعات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان والعراق وسورية. فهذه لم تعد مصدراً لتحفيز الوطنية الفلسطينية وتغذيتها، وباتت تفتقد القدرة على حمل المشروع الوطني، على النحو الذي كانته في السابق، بل إن الهوة بينها وبين المجتمع الفلسطيني في الداخل باتت أكبر بكثير مما كانت قبل إقامة كيان السلطة.

والحال، فلم يعد بإمكان الفلسطينيين الاستمرار على واقعهم القديم مع كل التغيرات الحاصلة في البيئات العربية والدولية، ومع كل هذا الخراب المحيق في المشرق العربي، والانفجارات الحاصلة فيه، من لبنان إلى اليمن مروراً بالعراق وسورية، والتصرّف كأن لا شيء يحدث، أو لا شيء يؤثر في أحوال الفلسطينيين السياسية والاجتماعية وأشكال كفاحهم ضد عدوهم، وفي ما اعتبر يوماً أنه القضية المركزية.

نعم، الفلسطينيون أحوج ما يكونون اليوم إلى مؤتمر تأسيسي، بيد أن هذا لا ينتظر منه إعلان حرب ضد إسرائيل، أو رفع شعارات الكفاح المسلح، إذ لا الظروف العربية والدولية تسمح بذلك، ولا الفلسطينيون لديهم الإمكانات لهذا الأمر بعد كل التجربة السابقة، وفي ضوء ارتهاناتها، ومآلاتها.

القصد أن مؤتمراً كهذا يفترض أن يشتغل في هذه الظروف والمعطيات على ترميم الوضع الفلسطيني، وعلى المتاح والممكن، والذي تم نسيانه، أو اللامبالاة إزاءه، في خضم ادعاءات الانشغال بالعمل المسلح لتحرير فلســـطين، أو بالمفاوضة لإقامة دولة فلسطينية. والحقيقة، فإن الإخفاق في هذين المشروعين، أو الخيارين، إنما يرجع أساساً إلى ترهل البنى السياسية الحاملة لهما، وإلى تخلف الإدارة الفلسطينية وضمنها تخلف قدرتها على استثمار الموارد المتاحة، ذلك أن العملية الوطنية الفلسطينية ذات وجهين، أحدهما يتعلق بالصراع ضد إسرائيل، وثانيهما يتعلق بتنظيم البيت الفلسطيني، أي المجتمع والكيانات السياسية، وإدارة الموارد، وهو الأمر الذي تعرض للإهمال، أو أنه لم يكن في مركز اهتمام القيادات الفلسطينية.

المهم أن الفلسطينيين باتوا في حاجة ملحة إلى مؤتمر تأسيسي لإعادة تعريف إجماعاتهم الوطنية وأهدافهم السياسية، بغض النظر عمّا يستطيعونه أو ما لا يستطيعونه في هذه المرحلة أو تلك. وبدهي أن ذلك يتأسس على جانبين، أولهما، التمييز بين ما تتيحه لهم الظروف الدولية والإقليمية والعربية وبين حقهم التاريخي والمشروع في أرضهم ووطنهم. وثانيهما، إضفاء مضامين قيمية على قضية التحرير بحيث لا تقتصر القصة على الصراع على الأرض وإنما على قيم الحقيقة والعدالة والحرية والمساواة، أيضاً.

ولعل الفلسطينيين في خضم صوغهم مشروعهم الوطني يعززون فهمهم لاعتبار أن هدف أية إجماعات سياسية هو الحفاظ على وحدتهم في أماكن وجودهم كافة، وتعزيز إدراكاتهم لكونه شعباً، إذ ما قيمة أية مشروع سياسي يتأسس على تقويض وحدة هذا الشعب أو تجزئته أو محو إدراكاته بذاته كشعب؟ ثم ما قيمة أي تسوية لا تتأسس على عناصر الحرية والمساواة والحقيقة والعدالة (ولو النسبية)؟

المؤتمر الوطني الفلسطيني مهمته أيضاً إعادة تعريف الكيانات السياسية الفلسطينية وتأتي ضمن ذلك إعادة تفعيل منظمة التحرير وإطاراتها ومؤسساتها على مرتكزات وطنية وتمثيلية وديموقراطية. كما يأتي ضمن ذلك مراجعة التشكيلات الفصائلية الفلسطينية. ومعلوم أن ثمة فصائل لم يعد لها أي مكانة تذكر، لا في مجتمعات الفلسطينيين في الداخل والخارج، ولا في إطار الصراع ضد إسرائيل، ناهيك عن أنه ليس لها أي هوية سياسية أو أيديولوجية تبرر استمرارها. ومثلاً، فمن غير المعقول أن فصائل صغيرة جداً لها عضوان في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بسبب انقسامها على ذاتها، ولا يعرف الفلسطينييون رأسها، في حين يجري تهميش مشاركة أصحاب الكفاءات من الفلسطينيين بسبب عدم انتمائهم إلى هذا الفصيل أو ذاك.

القصد أنه آن الأوان للانتهاء من العهد الفصائلي، ومن عقلية المحاصصة «الكوتا»، المسؤولة عن كل هذا التدهور والتبلد والعطالة في الساحة الفلسطينية، لا سيما أن معظم الفصائل مستمرة شكلاً فقط بسبب علاقاتها مع النظام السوري، أو بسبب الاختلاف بين حركتي «فتح» و «حماس»، والاستقطاب الحاصل بينهما. وكلنا يعلم قصة الفصائل الفلسطينية في سورية التي أدارت ظهرها ليس فقط لعذابات معظم السوريين، وإنما أيضاً لعذابات الفلسطينيين السوريين، لا سيما بعد ما كابده أهالي مخيم اليرموك.

ومعلوم أننا نتحدث عن واقع فيه 15 تشكيلاً سياسياً، علماً أن فصيلين اثنين احتلا معظم مقاعد المجلس التشريعي في انتخابات 2006، هما حركتا «فتح» و «حماس»، في حين أن الجبهة الشعبية حازت مقعدين فقط، في حين فازت ثلاثة فصائل هي الجبهة الديموقراطية وفدا وحزب الشعب بمقعدين لكلٍّ منها، أي أن ثمة أكثر من عشرة فصائل ليس لها أي مكانة عند الفلسطينيين، ولا في أي شكل من الأشكال.

أخيراً، الشعب الفلسطيني يمتلك كفاءات كبيرة وكلها باتت خارج العمل الفصائلي الذي لم يعد يتمتع بطاقة جاذبة، لافتقاره إلى الأهلية والحيوية والصدقية، لذا فمن غير المعقول استمرار التقرير بشؤونه، وشؤون قضيته، بمجموعات فصائلية مغلقة على ذاتها، باتت تفتقد القدرة على التطور، وغدت عبئاً عليه، بارتهاناتها لهذا النظام أو ذاك، وبوضعها الفلسطينيين أمام خيارين متناقضين، إما استمرار الكفاح من أجل حقوقهم الوطنية أو استمرار مواردهم المالية المتأتية من علاقاتهم الوظيفية أو من تنازلاتهم السياسية.

لقد اثبتت تجربة قرن من الزمان، أن الشعب الفلسطيني شعب شجاع، ولديه استعداد عال للتضحية، وأنه يمتلك إمكانات كبيرة، وتجربة غنية، وهذه كلها أمور تصب في رصيده وفي رصيد أية مبادرة تحاول انتشاله من هذا الدّرْك الذي وصل إليه، بسبب تآكل البنى الفصائلية، وأفول دورها، وافتقارها إلى روح التجديد والتغيير.


* كاتب فلسطيني



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
وقف نار غير مشروط في غزة بوساطة مصرية
تل أبيب ترفض التهدئة وتستدعي قوات الاحتياط
مصير الانتخابات الفلسطينية يحسم اليوم
استطلاع: «فتح» تتفوق على «حماس» والبرغوثي يفوز بالرئاسة
المقدسيون مدعوون للانتخابات عبر مراكز البريد
مقالات ذات صلة
حرب غزة وأسئلة النصر والهزيمة! - أكرم البني
أيضاً وأيضاً: هل يتوقّف هذا الكذب على الفلسطينيّين؟ - حازم صاغية
لا قيامة قريبة لـ«معسكر السلام» - حسام عيتاني
إعادة اختراع الإسرائيليّة والفلسطينيّة؟! - حازم صاغية
... عن مواجهات القدس وآفاقها المتعارضة - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة