ارتفعت أخيراً في الجلسات والمنابر الإعلامية نبرة تعيّر اللبنانيين بـ «حزب الله»، وتشمت من حكمه لهم، و «سحقهم تحت نعله» للإشارة إلى انكسارهم أمام سطوته. وبغض النظر عن إعجاب كثيرين بالنعال وفاعليتها في دوس الكرامات، يستعين أصحاب هذا الصوت بأدلة صحيحة ومثبتة في السياق اللبناني، للتوصل إلى استنتاجات تقارب الصواب ولا تصيبه.
وغني عن التكرار أن «حزب الله» تسلط على الحياة العامة في لبنان وعطل عمل المؤسسات، ورفع سلاحه في وجه مواطنيه، وانخرط في حروب إقليمية أكبر من حجمه وحجم بلده، ثم استثمرها في الداخل نفوذاً وسلطة وهمينة. وإلى ذلك، ثبت أخيراً وبالدليل القاطع أن أحد أبرز وجوه فريق 8 آذار الذي يرعاه «حزب الله»، أي ميشال سماحة، متورط في نقل متفجرات من سورية إلى لبنان بهدف تنفيذ اغتيالات سياسية، ضد خصوم الحزب والنظام السوري معاً.
وقبل سماحة، كان حليف «حزب الله» المسيحي أي «التيار الوطني الحر»، الذي يسعى زعيمه ميشال عون إلى الرئاسة، مُني بفايز كرم عميلاً إسرائيلياً، فيما سبابة الأمين العام التي يلوح بها محاضراً في النضال والمقاومة، ماثلة في مخيلة اللبنانيين، لا تفارقهم.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، يجدر التذكير بأن «حزب الله» استفاد أيضاً من غطاء عربي واسع مكّن قبضته في الداخل. فالتجاوزات التي دشن بها نشأته ومسيرته تعود إلى مطلع الثمانينات وليس إلى تاريخ انخراطه في الوحول السورية.
وكان التعامل العربي العام مع «حزب الله» قام طوال عقود إما على اعتباره مقاومة شريفة ومحقة ضد إسرائيل، بالتالي منزهة عن أي انتقاد، وإما مسألة داخلية، على اعتبار أن «الاستثناء اللبناني» يتيح تسمين حزب طائفي ضمن التركيبة القائمة. لم يدرك الرأي العام العربي الذي أتاحت ظهوره الثورات وميزت بينه وبين أنظمته، خطورة ما يمثله نمو حزب بهذه القوة على حساب الدولة الهشة أصلاً، إلا حين ناله ما نال اللبنانيين قبله.
والأمثلة كثيرة وغير بعيدة. ففي حرب تموز (يوليو) 2006، لم يرتفع صوت من خارج الحدود يندد بتفرد «حزب الله» في إعلان حرب ساحقة ماحقة فيما البلد يتخبط أصلاً في دماء الاغتيالات السياسية. وحتى الأقلام القليلة التي خطت سطوراً في هذا الاتجاه، نقلت مواقف حكوماتها السياسية أكثر مما عكست مزاجاً شعبياً في بلدانها. فيكفي أن صور أمين عام «حزب الله» اجتاحت المنازل وسيارات الأجرة والمحال التجارية في أكثر من عاصمة عربية فيما ضاحية بيروت تدك بالصواريخ الإسرائيلية.
كانت ثمة حاجة شعبية ملحة إلى نصر، أي نصر، حتى جاء «حزب الله» وقدمه للشارع العربي، فتقبله الأخير بطيب خاطر غاضاً الطرف عما أصاب اللبنانيين من خسائر، وما دفعوه من أثمان لا تعوضها صناديق ولا مساعدات أو ملاحم بطولة.
والتجربة نفسها تكررت عندما اجتاحت القمصان السود بيروت في 7 أيار (مايو) 2007، وتلقى بعدها اللبنانيون تعاطفاً خافتاً ودروساً في الوطنية وكيفية حسن اختيار اللحظة السياسية.
وهذا الشارع - الشوارع العربي نفسه، الذي ساهم في تكريس سلطة أمر واقع وألوهية نصر مزعوم، لا يكتفي بالشماتة مما آلت إليه الحال في لبنان، بل يطالب اللبنانيين بالتصدي لحزب كان أبناء ملته (المطعونون اليوم في وطنيتهم) أول من وقف في وجهه.
والحال أن ذلك القمقم الذي فتح دفعة واحدة، قد يفيد في إطلاق نقاش جدي حول مفاهيم أساسية مثل معنى الوطنية، والتحالف السياسي وحدوده والتمييز بين الشعب والسلطة. ذاك أن الافتراض الذي يجمع اللبنانيين كلهم تحت مظلة «حزب الله»، يجعل من الشعب والسلطة التي «تسحقه» أو ترعاه، كياناً واحداً متجانساً. ومرد ذلك إلى ثقافة عميقة ومتجذرة من التماهي بين الرئيس والمرؤوس، والسلطة أو الحكومة أو النظام، والشعب، حتى عندما يثور الأخير، كما نشهد منذ 2011.
لكن ذلك لا ينطبق على لبنان لسبب بسيط أن لا سلطة فعلية فيه، ولا حكومة ولا نظام... بل مجرد شعب يتدبر أموره، إلا في حالة «حزب الله» التي تشكل استثناء ضمن الاستثناء اللبناني.
وفي المقابل، ليس أكثر دلالة على محاولة إعادة تكريس تلك الثقافة التي تماهي القاعدة برأس الهرم، إلا من ميز بين لبنانيين «شرفاء» وآخرين «خونة»، وحصر وكالات الوطنية إما بمن هم أعداء صريحون لـ «حزب الله»، أو مؤيديون لثورة هنا وسياسة خارجية هناك. وتلك ليست إلا لغة «حزب الله» نفسه حيال خصومه، وليست استعادتها في سياق اتهامه من دون دلالة.
عموماً، ثمة لاعب أســاسي يتحمل جزءاً غير قليل من المسؤولية في ذلك كله، ويتجاوز الحزب وبيئته والدول التي ترعاه، أو تلك التي خفقت قلوب مواطنيها له. إنهم خصوم الحزب الســـياسيون من فريق 14 آذار الذين عـلق عليهم اللبنانيون آمالاً كبيرة، فلم يصيغوا خطاباً وطنياً جامعاً حين أتيح لهم ذلك، ولم يرتقوا بتحالفاتهم السياسية الخارجية إلى مستوى مقبول من الشراكة والندية. |