في خطاب حسن نصر الله الأخير، المكرّس للموضوع اليمني، يتعفف عن توصيف الصراع كصراع طائفي، لكنه سرعان ما يقيم هوة حضارية تفصل بين اليمن وجيرانه ليقول أنه صراع حضاري. قبل حسن نصر الله، كان بشار الأسد قد هجا الدول العربية وقادتها واصفاً إياهم بأنهم «عربان»، ولم تغب الصفة الأخيرة على سبيل الشتيمة عن إعلام الممانعة، وحتى عن أولئك الذين يخجلون من إظهار موالاتهم علناً، ولم يغب معها هجاء مَنْ ثاروا على الأسد بوصفهم «عرباناً» طالما أنهم تلقوا الدعم من أشقائهم العربان.
ولا تتوقف الطرفة عند تنزيه أصحاب القول السابق أنفسهم عن الطائفية، بل تتعداها إلى الإفصاح بعدها مباشرة عن عنصرية صارخة، ومن ثم فإن مَن هم في موقع حضاري أدنى يتوجب عليهم الانصياع لهيمنة أصحاب الباع الحضاري الأقدم!
نحن أمام خطاب يتعمد إخفاء الكارثة بمأساة أكبر منها، وهي سمة قابلة للتعميم على مجمل «السياسات» المتبعة في المنطقة منذ عقود، وقد يكون من الدقة استخدام تعبير آخر سوى «السياسات» حتى إذا كنا نقصد منظومة من السلوك الممنهج، طالما أن هذه المنظومة عملت أصلاً «وطوال الوقت» على منع السياسة. فمنع السياسة في المنطقة وإن تولته، على نحو أكثر وحشية، منظومة أمنية شديدة التغوّل فقد تولت مجموعة من الأدلوجات المتساندة أمر تبريره وتمريره. بيت القصيد أن أي صراع جوهري هو بطبيعته ممتنع عن السياسة، ولم يأتِ من فراغ سابقاً توصيفُ الصراع مع إسرائيل بأنه صراع حضاري، حتى إذا ذهبت ريادة استخدامه إلى البروباغندا الإسرائيلية العاملة في الغرب، وتلقفه عرب ليكرروه معكوساً بعد ذلك. وأن تُرفع الصراعات الداخلية إلى المستوى «الحضاري» فتلك دلالة على تأبيده كصراع وجود، طالما أن الهوة الحضارية بين الطرفين باقية ما بقي التاريخ وما بقي الطرفان.
من جهة أخرى، ومهما بدا الربط مُستنكراً من قبل البعض، لا يمكن إغفال أن المداومة على تحويل النزاعات إلى صراعات «حضارية» أو طائفية تعبّر عن قلق وجودي عميق، وليس بدعة القول أن هذا القلق لا يجد سلواه إلا في التسلط على الآخر والسيطرة عليه. بهذا المعنى، لم يكن متوقعاً أن تكون الأجهزة الأمنية إلا ما كانت عليه فعلاً، ووحشيتها حتى في أزمنة «السلم الأهلي» هي أصدق تعبير عن أكذوبتي السلم والأمن. أيضاً، ليس متوقعاً أن تعوّض رسائل التطمين أو مقولات الديموقراطية واقعة الإمساك بالسلطة ذاتها، لأن البدء ببناء الثقة يُبنى طوعاً بالقبول بمبدأ التكافؤ، أو عندما تُملي موازين القوى القبول به.
ربما، قبل الخوض في مفاهيم مجردة عن الديموقراطية، من الملحّ التفصيل في قضية الأمن وفي دور الأجهزة الأمنية بما فيها الجيش، فواحدة من أهم المشكلات تتجلى في انعدام أدنى توازن بين الحياة السياسية والأجهزة الأمنية، وفي عدم الفصل بينهما، أي في عدم اعتبار الأمن مفهوماً مجرداً عن السلطة وتقلباتها. لعل «تأميم» مفهوم الأمن والأجهزة الأمنية من أكثر المهام إلحاحاً لئلا يكونا أداة تسلط، ولتفقد أية مجموعة متسلطة مخالبها. بخلاف الدعوات التقليدية التي تنص على احتكار الدولة السلاح أو العنف، ثمة حاجة إلى تجريد الدولة من أكبر قدر منهما، بالتوازي مع عدم السماح بهما لأية مجموعة خارج الدولة.
في سورية، شهد العقد الأول بعد الاستقلال تناوباً في أطوار السيطرة بين العسكر والسياسيين، ما أدى إلى هروب الأخيرين إلى الوحدة مع عبدالناصر، وعندما نكصوا عنها كان العسكر لهم بالمرصاد لينقلبوا على الحياة السياسية مرة قاصمة. هذا يدلل على صعوبة التعايش بين أية ديموقراطية ناشئة وجيش «صاعد»، ومن حسن الظن فقط الركون إلى النوايا الطيبة لجنرالات جيش وأجهزة أمن قويين، ولا شك في ازدياد المهمة صعوبة عندما يعتمد هؤلاء على ولاءات وعصبيات أهلية، أو عندما يعمدون إلى تعزيزها خدمة لتطلعاتهم السلطوية، إن لم يكونوا تعبيراً عن تطلعات مجموعة ما.
بوجود شبكة أمنية قوية وتحاجز اجتماعي يتعزز بها سيتعذر باطراد وجود أفق لممارسة السياسة، ويتعذر البحث عن تسويات سياسية طالما اتخذ الصراع طبيعة صراع الوجود. هناك مجموعة على الأقل ستنظر إلى السلطة على أنها ضمانة وجودها، وستنظر إلى منظومة القمع المسلطة على الآخر كضمانة وحيدة لرضوخه، وسواء كانت هذه المجموعة طائفة أو لم تكن فهي ستتحول إلى ما يشبه الطائفة المغلقة وتسلك سلوكها، لكن في العديد من تجارب المنطقة ثمة جهوزية تسهل استثمار ما هو طائفي، وهناك من الأصولية المعممة ما يكفي لفتح جروح الماضي على ممكنات الحاضر. إذا شئنا التبسيط، سيكون سهلاً القول بنقل التحاجز من حيز اللامرئي إلى المرئي، أي إقامته على الأرض وكفى المتقاتلين شر الوحشية هذه، لكن إقامة حدود من هذا القبيل لا تكفي لإرضاء الأقوى ولا لطمأنة الأضعف.
لعلها من الحالات الأكثر عسراً في قضايا الدول، فنحن أمام «شعوب» دفعتها عقود الاستقلال في اتجاه كل ما يمكن أن يباعد في ما بينها وفي اتجاه معاكس لما تكون عليه الدولة، وفي الوقت نفسه لا توجد آفاق بديلة، ولا تُطرح عليها ومنها سوى البدائل الأسوأ. وفي أهم المفارقات سيبدو التفكر في وجود الدولة أقرب إلى المتناول من التفكر في طبيعة السلطة، أي ستتكشف الأفكار الغالبة عن إقرار بمطابقة طبيعة السلطة لطبيعة السكان أو جماعاتهم وشعوبهم، بينما الدولة هي الطارئة والغريبة عليهم. ذلك سيمنع التفكر في طبيعة الدولة الملائمة، حيث من المرجح أن تحتل الجماعة «بتخيلها وحدة متجانسة» مكان الدولة، وحيث يطغى وهم التجانس على كل ما أُنجز عالمياً ومحلياً على صعيد حقوق الأفراد.
الفرد الذي لا يؤرقه، ولا يهدد شرطه الوجودي، الإحساس بعدم الأمن هو القادر على التعين ككائن سياسي، أليـــس غـــيابه هو أحد أسباب فشل التجربة الحزبية لمصلحة العصبيات الأهلية؟ الآن، قد يكون التساؤل ضرورياً عن سبب انتعاش المقولات المروّجة لكــل أنواع صراع الوجود، أي المقولات التي تدفع بالجميع إلى حظيرة الجموع. حقاً من المستفيد من الترويج لانتعاش عصر الجماهير؟ |