في مطالع العشرينات وصف لينين، قائد ثورة أكتوبر الروسيّة، الاتّحاد السوفياتيّ الوليد بأنّه "قلعة محاصرة". وبين ما كان يقصده أنّ ذاك الاتّحاد سيبقى هكذا محاصَراً من القوى الإمبرياليّة إلى أن تهبّ القوى البروليتاريّة في أوروبا فتطيح إمبرياليّاتها وتكسر الحصار عنه. والأمر اللافت هنا أنّ دولة في حجم الاتّحاد السوفياتيّ، مساحتها هي الأكبر في العالم كلّه، يمكن أن تغدو "قلعة محاصَرة". ولأنّ الثورة لم تهبّ من الغرب، فقد استمرّت "القلعة المحاصرة" محاصرة حتّى الحرب العالميّة الثانية، حين تمدّد النفوذ السوفياتيّ إلى أوروبا الوسطى والشرقيّة. وربّما كان لهذه التجربة أن جعلت فكرة التعرّض لـ"الحصار" فكرة ثوريّة، تُستأنَف معها الأساطير الخلاصيّة القديمة التي عرفتها ثقافات دينيّة وغير دينيّة عديدة. والحال أنّه في 1960 بدأ الحصار الأميركيّ لكوبا الكاسترويّة. والأخيرة، ولأنّها جزيرة صغرى تكاد تشاطئ الساحل الجنوبيّ للولايات المتّحدة، قابلة لأن تستدعي فكرة الحصار أكثر كثيراً من الاتّحاد السوفياتيّ الشاسع. وهنا، بالتأكيد، فعلت تلك الفكرة فعلها البطوليّ، وأسهمت في إكساب كاسترو الهالة التي اكتسبها على نطاق عالميّ. وبعد ثلاثة عقود ونصف العقد، فُرضت العقوبات على إيران الخمينيّة التي سبق لها أن افتتحت ثورتها في 1979 باحتجاز العاملين في السفارة الأميركيّة بطهران. وكان للعقوبات، وإن لم تكن حصاراً، أن عزّزت صورة النظام الخمينيّ كضحيّة وكبطل في وقت واحد. فمن تعاقبه الولايات المتّحدة، وما هي إلاّ "شيطان أكبر"، لا بدّ أن يمثّل الحقّ والحقيقة، لا في نظر قطاع عريض من الإسلاميّين فحسب، بل أيضاً في نظر قطاع لا يقلّ عرضاً من المناهضين الشعبويّين لـ"الهيمنة الأميركيّة" في العالم. لكنْ مؤخّراً، قرّر الكوبيّون والإيرانيّون، على ما يبدو، أن يغادروا المثال اللينينيّ المبكر، وأن يفضّلوا الحياة على بطولة زادتهم فقراً على فقر. وربّما أعلنت التوجّهات الأخيرة لنظاميهم الإيديولوجيّين عن بدايات تحوّل، لا في السياسة فحسب، بل في القيم أيضاً. وعلى رغم كلّ الاختلافات، يمكن لهؤلاء الإيرانيّين والكوبيّين أن يجدوا ما يشجّعهم في تجارب سابقة عرفتها الصين وفيتنام، حيث حلّ الانفتاح محلّ الحصار، وطلبُ الحياة محلّ طلب البطولة، فأثمر الأمر نتائج إيجابيّة ملموسة. لكنّ السيّد حسن نصر الله لا يعبأ إطلاقاً بالوجهة الكونيّة هذه. فهو لا يريد للّبنانيّين أن يستوحوا ما يفعله اليوم الكوبيّون، ولا حتّى الإيرانيّون الذين يستوحي أشياء كثيرة منهم. إنّه يريد لشعبه أن يكرّر تجربة الحصار والعقوبات، ومن ثمّ الإفقار، التي يبادر الكوبيّون والإيرانيّون إلى طيّ صفحتها.
فأن نعزل نفسنا ذاتيّاً، وأن نجعل من أنفسنا، بمحض إرادتنا، قلعة محاصَرة، هو الهدف المعلن.
|