الأحد ٢٤ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: نيسان ١٩, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
الثورة الدينية وقضية الإصلاح - محمد الحدّاد
أعادت الثورات العربية، بآمالها وخيباتها، طرح قضية الإصلاح الديني، بعد أن تعمّق اختطاف الإسلام من الجماعات الأكثر عنفاً ووحشية، بما جعل صورته تشوّه في العالم تشويهاً بالغاً.

ويطرح كثيرون اليوم مواجهة الأصولية الدينية والحركات الجهادية بالعودة إلى التقليد التاريخي للإسلام السنّي وقد قام على الثالوث المعروف: علم الكلام الأشعري والتصوّف السلوكي (المنسوب إلى الجنيد) واعتماد أحد المذاهب الفقهية المعترف بها. ومن الناحية العملية، اضطلع هذا الطرح بدور مهمّ خلال السنوات الأخيرة في التصدّي لجماعات العنف وعمليات نسف المرجعيات التاريخية في العالم السنّي ودفع المجتمعات السنية إلى الفوضى الدينية وفتح الباب على مصراعيه لفتاوى الجهل والعنف والدمار وتوفير المناخ الملائم لأحزاب من دون برامج للوصول إلى السلطة برفع لواء الدين. ومن الضروري تعميق هذه الحاجة العملية ببرنامج فكري يعيد تأهيل هذا التقليد التاريخي الذي كان ضحية نقد عنيف ومتواصل، بدأ مع عصر النهضة وتواصل في عصر الأيديولوجيات. فهو تقليد يحتاج إلى قراءات علمية هادئة تحدّد ما تضمّنه تاريخياً من سلبيات ومن إيجابيات. ومن المؤكّد اليوم أنّ النقد الذي سلّط عليه في الخطابات المتفائلة للنهضة ثم الأيديولوجيات «التقدمية» لم يؤدّ إلى تطوير العقلانية والروح العلمية في الفكر العربي، بل كانت المستفيدة منه في النهاية الأصولية برافديها، السنّي والشيعي، التي اجتاحت الفضاءات الدينية ومن ثم المجتمعات كلها.

ولئن أدّى نقد توما الإكويني أثناء النهضة الأوروبية إلى نشأة ديكارت وكانط، فإنّ نقد الأشعري في الفكر العربي قد انتهى بنا إلى سيّد قطب وابن لادن، وهذا ما لم يكن يتوقّعه الناقدون في عصر النهضة ولا الباحثون في التراث الإسلامي في القرن العشرين.

لكن حذار! سيكون من الخطأ والوهم اعتماد حلول الماضي لمواجهة الأصولية أو بناء الفكر الديني الملائم للعصر. نعم، إنّ من المفيد استلهام روح الأشعرية القائمة على مبدأ الوسطية، لكنّ علم الكلام الأشعري منظومة فكرية منتهية لأنّها قامت على مقولات واستدلالات منطقية وفلسفية تجاوزها التاريخ. ومن الضروري استلهام روح التصوّف المتمثلة في الارتفاع بالإنسان في درجات السموّ الروحاني، لكنّ الآثار الصوفية القديمة مملوءة بالخرافات والسذاجات التي تنسف العقل وتشجّع على الخمول. ولا حاجة اليوم إلى ابتداع مذهب فقهي جديد، لكن داخل كلّ مذهب قائم لا بدّ من مراجعات عميقة لتجاوز العديد من الأحكام البالية وتقديم الاجتهادات المناسبة لروح العصر.

ليس الحلّ في استنساخ الماضي وإن كان من المشروع الاستلهام منه، بل الحلّ في ما أدعوه بالإصلاحيات الوطنية، أي الانطلاق في كلّ بلد من تراثه الخاص وتجربته التاريخية ومخزونه النفسي وتعهّد هذا المحصول بالإصلاح ليصبح ملائماً للعصر ولتطلعات الشعب. وتوجد بيئات سنيّة كانت تاريخياً شديدة التأثر بالأشعرية مثل مصر، وأخرى كانت أقلّ تأثراً مثل الخليج، وتوجد أقليات دينية من داخل الإسلام ومن خارجه ينبغي أن تُحترم في مرجعياتها كي لا تصبح فريسة سهلة للأصوليات التوسّعية، وخاصة الأصولية الشيعية ونظرية ولاية الفقيه.

ولعلّ أهمّ ضابط يميّز الفكر الديني الإصلاحي، اعترافه بالمواطنة والدولة الوطنية. فهذا هو قطب الرحى، ويترتّب عليه القطع مع الرؤية الكليانية للمرجعية الدينية، والتمييز في الدين بين ما هو مطلق لأنه يتعلّق بالإنسان وما هو متجدّد لأنه متعلّق بالمواطن. أما الحلول الأخرى فستسقطنا مجدّداً في مشكلة المرجعية العابرة للأوطان التي تضعف الدولة الوطنية وتتحدّى شرعيتها. وقد كان هذا مسلك الأصوليات منذ أن نشأت، من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين إلى مشروع الجهاد العالمي و «القاعدة» والخلافة الداعشية، مروراً بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يسعى إلى إقامة مؤسسة بابويّة في الإسلام على شاكلة الكنيسة الكاثوليكية.

إنّ كلّ هيئة دينية تمنح نفسها حقّاً مطلقاً في التحكّم بالمسلمين بواسطة الفتوى لن تكون في النهاية إلاّ أداة سياسية تستخدمها دولة ضدّ دول أخرى، أو توظّفها قوى إقليمية أو عالمية لتنفيذ مخططات للهيمنة، أو تكون طائفية متستّرة برداء الإسلام الجامع.

المطلوب اليوم تشجيع الإصلاحيات الوطنية والتعاضد بينها وتحالفها لمواجهة التطرّف والعنف، مع احترام خصوصية كلّ بلد وكلّ بيئة وطنية. وبهذه الحركية ينمو الإصلاح الديني والتجديد والاجتهاد في كل مجتمع ووفق حاجاته وإمكاناته، ويقع التوفيق بين الدين ومقوّمات الدولة الحديثة وأهمها المواطنة. إنّ مشروع الإصلاح الديني الذي كان جزءاً من النهضة العربية الحديثة قابل لأن يفعّل اليوم ليكون بديلاً عن الأصولية، بعد أن يصاغ في صيغة ملائمة لتطوّرات الأوضاع منذ ذلك الحين، وليتشكّل في شكل «إصلاحيات وطنية» تراعي الاختلاف والتعدّد داخل الدول الوطنية، وبين بعضها البعض.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة