لا توجد الجزائر في حال فراغ دستوري أو قانوني، وهي تقف على مشارف رئاسيات الشهر القادم. لكنها دفعت جموع متظاهرين شباب إلى التلويح بما يشبه الفراغ، فالاحتجاج على طريقة ترشح الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، يشير إلى خلل ما، ليس أبعده أن ممارسة السلطة تتطلب قدراً من اللياقة الجسدية والذهنية.
أحد السياسيين المخضرمين في المنطقة المغاربية كان يروق له تشبيه الحاكم بمثابة حكم في مباريات كرة القدم، ومهمة التحكيم تتطلب لياقة بدنية تمكّن من الجري في الملعب لرصد أخطاء اللاعبين. ولا ينقص الجزائر العثور على حكام ذوي خبرة وقدرة ونباهة لمجاراة فصول اللعب في إطار احترام القانون.
لدى التسليم بأن بوتفليقة لم يخالف الدستور، وليس هناك ما يحول دون ممارسة حقه الطبيعي في الترشح لولاية رابعة، فإن حرفية المقتضيات الدستورية لا تختزل جوانب التأهيل كافة، وفي مقدمها الوعي والقدرة والإمساك بسلطة التوقيع بيد لا ترتعش، فالأهلية تطرح في قضايا أقل أهمية من تدبير شؤون الدولة، في مسائل مثل الوصايا وإبرام العقود والتصديق على التزامات الأفراد، فكيف الحال عندما يتعلق الأمر بسلطة غير قابلة للتفويض إلا في ما ندر من ظروف قاهرة.
لا يهم إن كانت الاحتجاجات المتوالية صغيرة أو كاسحة، لكنها المرة الأولى التي تختلف فيها عن باقي أشكال الحراك في منافسات انتخابية تدور عادة بين من ينادي بالمقاطعة ومن يحض على توسيع نطاق المشاركة وبين من يناصر هذا البرنامج وهذا المرشح ومن يعارضه، فقد انقضت سنوات على انطلاق تجربة ديموقراطية في البلاد بدأت بالتخلص من سطوة الحزب الوحيد واتجهت نحو إقامة مظاهر تعددية حزبية وسياسية. وكان يعول على أن تكون رئاسيات الشهر القادم أكثر ملاءمة لروح التغيير التي أنهت هيمنة الفكر الوحيد.
لم يكن المشوار مفروشاً بالورود، فالعشرية الدامية ألقت بظلال كثيفة على توجهات البلاد التي صارت تنشد الوئام من أجل التقاط الأنفاس، واستطاع الرئيس بوتفليقة أن يضع بصماته على المرحلة، أقله لناحية فرض الاستقرار والتصدي لمظاهر الانفلات، فقد أدمج الجهود تحت عنوان واحد، وكان طبيعيا أن تنبت هوامش أخرى تجلت في تزايد انتقادات معارضيه حول استشراء الفساد وإحكام طوق لوبيات على مصادر الثروة والسلطة. غير أن حجم هذه المؤاخذات يظل أقل إثارة للقلق بالنسبة إلى مواجهة مخاطر التطرف والإرهاب.
لقد أصبح ترشح بوتفليقة أمراً واقعاً كان يمكن تفاديه قبل تحمله المشاق في المثول أمام المجلس الدستوري، تماماً كما فرض انسحاب مرشحين آخرين وضعاً جديداً كانت في الإمكان الإفادة منه في منافسات الدور الأول، كما يحدث في كل الصراعات الانتخابية، ذلك أن سلبية الانسحاب ليست مشجعة، كونها تحيل في أقرب تقدير إلى أن المنافسات صارت في وارد الأحكام المسبقة. غير أن التعاطي بسعة الصدر مع التظاهرات الاحتجاجية ذات الطابع السلمي، يمكن أن يفسح المجال أمام إضفاء نوع من الصدقية على الاستشارة الشعبية القادمة، إذ يصطف مناصرون إلى جانب بوتفليقة، كما يشكك معارضون في أجواء المنافسات من دون أن يصل الأمر إلى نقطة اللاعودة، طالما أن الجزائر أقرت القطع بطريقة أو بأخرى مع أشكال هيمنة الصوت الوحيد.
في أحداث سابقة، من قبيل انفجار التذمر الشعبي في ستينيات القرن الماضي، اكتشفت الجزائر مكامن فشل تجربتها، وسرعان ما أدارت عجلة القيادة نحو الاتجاه الصحيح الذي يبدأ من المرور عبر علامات التعددية واقتصاد السوق ودعم المبادرة الحرة. ومن الطبيعي أن الأمر يتطلب المزيد من المرونة للوصول إلى الطريق السليم، أي إقامة نظام ديموقراطي لا يتدخل فيه أي طرف بتكييف نتائج صناديق الاقتراع التي تعكس ميول الناخبين.
لا يتعلق الأمر بمجرد المرور من بوابة استحقاقات رئاسية، فهذه لها شروطها ومواصفاتها الموضوعية، ولكن بالعبور نحو آفاق أرحب، لا يشعر ضمنها جزء من الرأي العام أن إرادته سلبت منه، وأن المطلوب إليه هو أن يبصم على القرارات، من دون أن يشارك في صنعها. أما كيف يكون ذلك وقد انطلق مسار الاستحقاقات، فتلك قضية لن تعوز ذوي النيات الصادقة والإرادة الطيبة، فالأهم هو ما بعد 17 نيسان (أبريل) وليس ما يحيط به الآن، ومن يرمي بجسده إلى البحر والنهر عليه أن يمارس هواية السباحة من دون انتظار أي إشارة.
|