إذا كان بعضهم يعرّف السياسة بأنها فن الممكن، فإن تحقيق ذلك الممكن رهين بالعلاقة المعقدة والمركبة بين موازين القوى داخل الدولة في المغرب. ومعلوم أن موازين القوى في المجال السياسي تتحدد بعدد من المعطيات، أهمها قوة الإقناع، وقوة المال والنفوذ، والقوة الصلبة التي يملك النظام الحاكم في أية دولة الجزء الكبير منها. وعند الحديث عن الممارسة السياسية للأحزاب المغربية، في إطار موازين القوى تلك، نقف عند نمطين من الأحزاب:
أحدهما، أحزاب ليس لها عمق شعبي، بل لم تخرج، أصلاً، من رحم الشعب، خرجت من رحم النظام، سواء بإرادة النظام نفسه أو باستغلال ضعفه، كانت تسمى "أحزاباً إدارية". وثانيهما أحزاب ولدت من رحم الشعب، ولها امتداد شعبي يؤمن بأفكارها الإصلاحية قلَّ أو كثر.
وتلك الاحزاب، التي خرجت من رحم السلطة، شكلت، ولا تزال، أداة للحد من قوة الأحزاب الشعبية ونفوذها، وغالبا ما تعتمد هذه الأحزاب الإدارية على نفوذها في الإعلام، وعند عدد من الدول الغربية، وتحديدا فرنسا التي ترتبط مصالحها بمصالح هذه الأحزاب، والنخب المهيمنة على الإعلام والنخب الاقتصادية. وغالبا ما يكون نشاطها خطيراً على المجتمع والنظام نفسه، والملك بصفته رئيسا للدولة، وتحديدا عندما يُظهِر الملك رغبة ذاتية في الإصلاح السياسي. ويكون خطرها أكبر، عندما تخفت القوة الشعبية، التي تسند الأحزاب الديمقراطية الخارجة من رحم الشعب.
ولفهم هذه القضية، دعونا نعود إلى تاريخ المغرب الحديث بعيد الاستقلال، عندما رفع الراحل، محمد الخامس، شعار الإصلاح، مستندا في ذلك على القوة الشعبية التي جسدها، آنذاك، بعض رموز الحركة الوطنية، فإذا بالنخبة السلطوية المحيطة بالملك الراحل تشعر بخطورة هذه الإصلاحات عليها، وعلى مصالحها، فسارعت إلى إضعاف تلك القوة الشعبية، خطوة تسبق إضعاف الملك. وكانت أولى خطواتهم، في هذا الاتجاه، فبركة قضية سجنت إثرها ثلاث شخصيات، كان لها آنذاك نفوذ وقوة شعبيان، المحجوبي أحرضان والمرحومان عبد الكريم الخطيب والحسن اليوسي، الذي ينتمي إلى قبيلة عريقة في نواحي فاس، والتي بلغ إلى علمها نبأ اعتقال ابنها، فنزلت إلى الشارع، فبلغ الخبر علم الملك، محمد الخامس، فذهب بنفسه إلى سجن عين قادوس في فاس، وأطلق سراح المعتقلين الثلاثة، وقال لهم مازحاً: لو علمت أن سجنكم سيكشف المؤامرة، لأدخلتكم السجن بنفسي.
هذا الوضع هو ما عاشه المغرب، طوال عقود ما بعد الاستقلال، وكانت حدته ما بين سنة 2003 إلى 2011، بعيد انطلاق الربيع الشعبي، وقبيل انطلاق حركة 20 فبراير، التي رفعت شعار "ارحل" أمام شخصيات تشكل نواة مثل هذه الأحزاب السلطوية. فقد كانت الأحزاب ذات النفوذ والمشروعية الشعبيين، والتي خرجت من رحم الحركة الوطنية بعد الاستقلال، تشكل قوة تغيير وإصلاح حقيقية، لكنها فشلت في إِحداث الانتقال المطلوب، لأسباب ذاتية وموضوعية.
ولعل أحد أبرز هذه الأسباب الذاتية الدخول في صراع على السلطة والشرعية مع الملك الراحل، الحسن الثاني، حينها، وما نتج عن ذلك من انعدام للثقة بين الطرفين والشك في النيات، مما جعل المؤسسة الملكية تركز كل جهدها للدفاع عن شرعيتها وسلطتها، في ظل موجة الانقلابات التي عرفها العالم العربي خلال القرن الماضي (القرن العشرين) في مصر وليبيا وسورية والعراق والجزائر وتونس. وقد ساعد الملكيةَ في المغرب للحفاظ على سلطتها نُفوذُها الشعبي وبعض النخب العسكرية والاقتصادية والسياسية، التي لم تنخرط في الانقلابات على الملكية. وقد كانت، فيما بعد، الأحزاب الإدارية أحد أهم الوسائل والأدوات التي يعتمدها النظام حينها للحد من قوة الأحزاب، التي لها نفوذ شعبي كبير، نتيجة انعدام الثقة بين هذه الأحزاب والنظام الملكي، الذي يشعر أنها تهدده بالإزاحة من السلطة، أصلا، إذ أصبحت القوة الفاعلة في الساحة السياسية. وهذا ما يفسر تركيز المعارضة، اليوم، وإعلاميين كثيرين وعدة جرائد على التشكيك في نيات حزب العدالة والتنمية، واتهامه بتهديد الملكية، من أجل زرع الشك بينه وبين الملك، وهو ما يفسر في المقابل تركيز رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، على أهمية كسب ثقة الملك في عملية الإصلاح في المغرب.
ولأن ذلك النمط الأول من الأحزاب ليس له عمق شعبي، بل يعتمد أساساً على قوة المال والقوة الصلبة، عندما يكون في السلطة، أو توظيف أشخاص للقيام بأعمال عنف، تصل إلى حد الاغتيال للخصوم، عندما يكون كيانا موازيا للدولة، وهو خارج السلطة التي تتشكل بالانتخاب والديمقراطية، لأنه كذلك، فإن أية قوة شعبية، حزباً أو جمعية أو نقابة لها امتداد شعبي تعتبر عدوا له وعاملا معرقلا لأهدافه السلطوية الاستبدادية. ومن ثم، يسعى هذا النمط الحزبي السلطوي إلى تحجيمها وإضعافها عبر نفوذه الإعلامي والمالي، وذلك في أفق إضعاف الملك نفسه، بعد تكميم أفواه المدافعين عن الديمقراطية والإصلاح واستقطاب الانتهازيين من الأحزاب، بما فيها الأحزاب الشعبية.
وهذه الحالة، كما سلف، هي التي عاشها المغرب عقب انتخابات 2002 التي بينت تزايد شعبية حزب العدالة والتنمية، على غرار شعبية حزب الاتحاد الاشتراكي، قبل تجربة التناوب. وهي الشعبية التي رأى الحزب السلطوي الممتد داخل الدولة أن استمرارها تهديد له ولسيطرته على مفاصل الدولة، فبدأ مسلسل إضعاف هذه القوة الشعبية المتنامية.
وفي هذا السياق، جاءت أحداث 16 مايو/أيار الإرهابية سنة 2003 وتلتها حملة كبيرة من أجل القضاء على حزب العدالة والتنمية، باعتباره ممثلا لتلك القوة الشعبية، إضافة إلى المنظمات الشريكة له في مشروعه الإصلاحي، مثل نقابة الاتحاد الوطني للشغل، لإزالة أي سند شعبي، يمكن أن يتكئ عليه الملك، لمباشرة إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية مهمة، قد تمس بمصالح الحزب السلطوي والنخب التي يعتمد عليها، والتي تتمترس في دهاليز الدولة، خصوصاً أن الملك محمد السادس أبرز، في سنوات حكمه الأولى، توجها اجتماعيا إصلاحيا تخلى فيه عن سياسات رمزية، وكان يحل بعدد من المؤسسات، فيكتشف حجم الفساد داخلها، قبل أن يحدث تراجع في ذلك، يبدو أن سببه هو النخبة السلطوية المستبدة التي رأت في ذلك مسّاً بمصالحها الخاصة، التي تتعارض مع مصالح الشعب وفئاته الفقيرة والمهمشة.
وكان أحد أبرز فصول الحملة على هذه القوة الشعبية الزج بقيادات حزبية معارِضة لتوجه الحزب السلطوي حينها، بمن فيها قيادات في أحزاب أخرى، فقط لأنها رفضت مسايرته في سياساته. وفي هذا السياق، أيضاً، تدخل الحزب السلطوي في عدد من انتخابات الأحزاب الوطنية، لفرض قيادات معينة، تتماشى ومشروعه السلطوي، بما فيها تخلي مناضلين تاريخين عن قيادة أحزابهم.
وكادت الحملة تنجح، لولا هبَّة الربيع الشعبي، وتحديدا حركة 20 فبراير في المغرب، مما دفع تلك النخب السلطوية إلى أن تتراجع إلى الوراء، مما أفسح للملك فرصة لإعادة ترتيب الأمور وتقليصه سلطة الكيان الموازي للدولة، كما سماه المؤرخ والناطق الرسمي السابق باسم القصر الملكي، حسن أوريد. وهو التقليص الذي انعكست نتائجه في دستور 2011، وفي حرص الملك على أن تكون الانتخابات نزيهة قدر الإمكان، وفي الحفاظ على التجربة الديمقراطية في ظل الانقلاب على أحلام الشعوب في مصر وليبيا واليمن، وإلى حد ما في تونس.
وليس سهلاً أن يصرح رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، وهو ما يزال في السلطة، أن الملك تعرض لضغوط كبيرة، وقاومها لتستمر هذه الحكومة. وهو تصريح يفترض أن تخصص له حلقات نقاش كبيرة، لأنه يتعلق برئيس الدولة، تمارس عليه ضغوط.
السياسة، إذن، فن تدبير موازين القوى، والسياسي الناجح هو الذي يدرك جيدا قوته وموقعها ضمن خارطة باقي القوى الأخرى، فتكون قراراته محكومة بذلك الإدراك وبحجم تلك القوى. وباعتبار الملك فاعلاً سياسياً أيضاً، فإن ممارسته السياسة محكومة بموازين القوى تلك.
ونجاح أي حزب سياسي إصلاحي في المغرب رهين بأن يمتلك قوة شعبية حقيقية واعية ومدركة لخريطة القوى، لكي لا تتخلى عن الحزب، لمجرد قرارات بسيطة، قد تبدو مؤقتاً أنها ضد المبادئ، التي بني عليها ذلك الحزب، بينما هي قرارات تمليها موازين القوى، وإلا عصف تشبُّثُ السياسي بكل تفاصيل المبدأ بالتجربة ككل، ونجاحه في تعميق الثقة بينه وبين الملك، بما لا يدع مجالا للشك في أنه يصارع على إزاحة الملكية من السلطة، وهي الثقة التي من شأنها أن تدفع الملكية إلى مساندة هذا الحزب السياسي في عملية الإصلاح، باستثمار الاثنين نفوذهما الشعبي، وأن يكون قادته على قدر كبير من القوة الذاتية، والتشبث بمبادئ النزاهة، بحيث لا يضعفون أمام الإغراءات من أي نوع، وأمام التهديدات.
وبناء عليه، يتبين الدور المركزي للوعي الشعبي في نجاح أية تجربة إصلاحية سياسية في المغرب، ودور الملكية المهم في نجاح هذا الإصلاح، عندما يكون بينها وبين الحزب السياسي، المسنود بالشعب، ثقة وتعاون.
|