الأربعاء ٢٧ - ١١ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: نيسان ١١, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
عن ولاء سكان السهب - رستم محمود
منذ إعلان تنظيم داعش سلطته على السهب الفسيح بين سورية والعراق، وهيمنته المطلقة على المجتمعات الممتدة على مدى تلك الجغرافيا، بات شائعاً في الأوساط السياسية و «المعرفية» تفسير يُعلل سيطرته السريعة بأنها نتيجة طبيعية للثقافة والميول البنيوية لأبناء هذه المنطقة حيال الإسلام السلفي، أو «الإسلام الحربي»، وفق أكثر الأوصاف راديكالية.

فوِفقها، ما إن ظهر تنظيم داعش، حتى كشف هؤلاء عن «جوهر» وحقيقة ولائهم السياسي للتيار الديني الراديكالي.

قبل قرابة نصف قرن، كانت رؤية أخرى شبيهة بهذه قد انتشرت عن أبناء المنطقة نفسها في سورية والعراق. ففيما كان تيار البرجوازية المدينية السورية يعيش أسوأ أيامه، وكانت الشيوعية في جنوب العراق تلاقي تعثراً بالغاً، كان أبناء المنطقة قد اندرجوا في تنظيمي حزب البعث القومي، الذي كان صاعداً بقوة وقتئذ، عبر انقلابين (1963) فصل بينهما شهر واحد فقط. حينها قيل إن الثقافة التحتية والولاء السياسي العميق لأبناء هذه المجتمعات، هو للعسكر والتنظيمات القومية.

وقبل ذلك بثُلث قرن أيضاً، كانت مجتمعات المنطقة نفسها هي الأقل مناهضة للهيمنتين الفرنسية والإنكليزية على سورية والعراق. فقد انعقد مزيج من التوافق والولاء بينها وبين القوتين العسكريتين الفرنسية والإنكليزية، وكانت تفسيرات القوميين العرب تقول وقتها بأنه من طبائع سكان هذه المنطقة موالاتهم للغريب، هم الذين كانوا آخر الذين تخلوا عن الولاء للسلطنة العثمانية.

مجموع هذه المقولات والتفسيرات الحديثة تغض النظر تماماً عن الخيط غير الرفيع الذي يجمع بين كل أشكال التماهي والولاء السياسي لهذه المجتمعات مع القوة المسيطرة عليها بالعنف.

ففي جميع الحالات ما كانت هذه المجتمعات صداميّة مع قوى السيطرة العنيفة عليها، وغالباً ما كانت تواليها بيُسر بالغ.

أساس ذلك قدرة «النُخب السياسية» المحلية في هذه المجتمعات على استمراء أيديولوجية أي قوة سيطرة جديدة، في شكل سطحي بالغ، يوحي للمُسيطِر بأنه بات يهيمن على هذه البقعة تماماً، ومن ثم تحويل قوة هذا المُسيطر إلى أداة في الصراعات البينية، ودوماً لمصلحة هذه «النُخبة» المحلية الحاكمة، في سبيل سيطرتها وهيمنتها. وهذا فيما المجتمعات المذكورة تفتقد كل أشكال المؤسسات في الحياة العامة، ما حوّل «قوة السلطة الحاكمة» إلى ميزان وأداة وحيدة لصعود وهبوط السلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

بناء على المنطق نفسه، يمكن فتح قوسين كبيرين على شكل تساؤلين سياسيين يخصان هذا السهب الجغرافي بوضعه الراهن:

أولاً: ما الذي فعله «البعث» كقوة سياسية وتنظيم عقائدي في كل من سورية والعراق طوال نصف قرن كامل من «الحداثة» لهذه المنطقة؟!. أليست تلك الجغرافيا بالتحديد هي بالضبط أداة معيارية لتقدير حجم ما فعله هذا الحزب وتلك الأيديولوجيا بمجتمعات هذين البلدين، حيث تم الحفاظ في شكل مطلق ومنهجي على «بداوة» السهب الذي بات يشكل مصدراً للطواعية السياسية، وحيث لم توجد أي مؤسسة ذات أثر حقيقي. لقد أبقى البعث تلك المناطق خزاناً بشرياً واقتصادياً وسياسياً لحُكمه المركزي في العواصم. وعبرها أيضاً مارس جميع مغامراته العسكرية والأمنية.

مدينتا دير الزور والرقة السوريتان، اللتان تمتدان على بحر من النفط والثروة المائية والزراعية، أشبه ما تكونان بمدينتين أفغانيتين عقب الغزو الأميركي الأخير، وعلى جنباتهما ريف صحراوي بائس. وقد لعب البعث طوال نصف قرن بالتوازنات الاجتماعية بينهما وبين ذلك الريف، فسحب منهما كل أُسس الأمان والتضامن الاجتماعي الداخلية التقليدية، وعبر أداء مؤسساته الأمنية والعسكرية الفظة، أعاد الاعتبار للقوة كمنطق وحيد في الصراع الاجتماعي. فهو إذاً أسس لمنطق البداوة المحضة، واعتبر نفسه الولي/القوي الوحيد. وكمثل ما جرى في هذا السهب السوري، صح ذلك بالضبط على نظيره العراقي، في زمني الاستبداد، الصدامي القديم والإيراني الحديث.

ثانياً: أي دور للدول «العظمى» في انجراف هذه الجغرافيا إلى هذا الحد من التهرؤ الاجتماعي والراديكالية السياسية. فهذه الدول ونُخبها الخبيرة بمنطقتنا كانت تدرك بعمق ما يمكن أن تنجرف إليه أحوال سكان هذا السهب في ما لو تُركوا وحيدين في مواجهة خيارين وحيدين فظين: إما نوري المالكي وبشار الأسد أو داعش.

والقوى الدولية نفسها تركت مجتمعات هذا السهب لقمة سائغة للنظامين السوري والعراقي منذ احتلال العراق وحتى بدء الربيع العربي، حيث انجرفت مجتمعاته إلى السُنيّة السياسية الحادة، نتيجة لما مورس عليها من جلافة الحُكم الطائفي، ثم عادت وتركت المجتمعات إياها لهيمنة تنظيم داعش المتوحش، وما وفرت أي قدر من الدعم لأية قوة سياسية أو عسكرية يمكن أن تكون ذات حظوة في تلك الجغرافيا، كالجيش السوري الحُر مثلاً.

الكثير من الكلام السياسي الذي يذهب لتفسير الأحوال الراهنة لمجتمعات تلك المنطقة بأنه ناتج عن «جوهرانية ثقافية» خاصة بها، إنما يقصد تبرير وشرعنة العنف الأرعن الذي كان وما زال يمارس عليها من قبل خصومهم السياسيين. لكن ذلك لا يمهد للمعرفة الحقة بأحوال علوم الاجتماع قط. فمسيرة دقائق على شط الفرات في مدينة دير الزور السورية، ومشاهدة سكان المدينة الموزعين على نوادي الشاطئ العامرة بكل أشكال الحياة، كفيلة بإثبات أن تلك الراديكالية المتخيلة لا تملك أي قدر من الصحة.

* كاتب سوري


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
تقرير لوزارة الخارجية الأميركية يؤكد حصول «تغييرات طائفية وعرقية» في سوريا
انقسام طلابي بعد قرار جامعة إدلب منع «اختلاط الجنسين»
نصف مليون قتيل خلال أكثر من 10 سنوات في الحرب السورية
واشنطن تسعى مع موسكو لتفاهم جديد شرق الفرات
دمشق تنفي صدور رخصة جديدة للهاتف الجوال
مقالات ذات صلة
سوريا ما بعد الانتخابات - فايز سارة
آل الأسد: صراع الإخوة - فايز سارة
نعوات على الجدران العربية - حسام عيتاني
الوطنية السورية في ذكرى الجلاء! - اكرم البني
الثورة السورية وسؤال الهزيمة! - اكرم البني
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة