تدفعك الاجواء العامة، ومشاهدة الضيق في صدور الاردنيين، وعلامات الغضب على وجوه الاصدقاء الى الهروب الى اقبية السؤال، وماذا بعد؟
تستمع الى اصرار احد الاصدقاء الكبار الذين قدموا للبلاد زهرة شبابهم، وعطاء بلا حدود، ومحاولات الوصول الى قبة البرلمان لاكثر من مرة برغم الاعترافات الرسمية والشعبية بوقوع تزوير مكشوف عليه، بقراره النهائي بالهجرة الى بلاد الغربة برغم اقتراب سنوات عمره من الستين، فتقشعر خوفا على ابنائك وعلى ايامك المقبلة، وتخفف الضغط على اعصابك بالتعلل بالقول "سقى الله أيام الزمن الجميل".
المحبَطون، وهم كثر، يرددون أن "الأردن قبل 30 عاما كان أجمل، والمجتمع آمن وأكثر رخاء، وحياة الناس كانت أكثر دفئا وحميمية، والبلاد في حالة تطور، والناس يحبون بعضهم..". ولكن.. هل المشكلة في "الزمن الجميل" الذي ولّى بغير رجعة، أم فينا نحن؟ من الذي يريد أن يمسك قرن الزمن ليعيده إلى الخلف وصولًا إلى الفردوس المفقود؟
حين تتردد في أيامنا عبارة الزمن الجميل، فإن المقصود بها هو الماضي الذي تسرّب منّا، ولم يعد منه سوى الذكريات والأطلال، فهل كان الماضي بالفعل جميلًا، ولم يكن فيه كل هذا الشقاء، وخاليًا من الفقر والمرض والجهل؟ أم أنه امتاز بهذه القيمة لأنه مضى ولن يعود؟
الماضي مهما كان جميلًا فقد كان أشدّ قسوة على الإنسان من الحاضر، ومتوسط أعمار البشر بلغ ثلاثين عامًا فقط في بعض الأزمنة، إذ كان بمقدور فأر مريض أن يتسبب في وباء يدمر حضارة.
لاحظوا كيف يواجه العالم اليوم الأوبئة. ففيروس إنفلونزا الخنازير، على سبيل المثال، لو جاء في زمن آخر غير زماننا لفتك بشعوب الأرض مثلما كان يفعل الطاعون، لكن التقدم العلمي والإنساني هذه الأيام قادر على محاصرة كل الأوبئة، ويقود المجتمعات إلى التقدم والرقي.
حتى ذائقتنا الفنية اختلفت. صحيح أن بعضنا يحن إلى الماضي لتجديد شبابه، فيهرب إلى أمسيات غنائية كانت تبدعها سيدة الغناء العربي أم كلثوم، لكنه هروب إلى المجال الزمني الذي تبددت فيه أيامنا وأعمارنا، ذلك الذي أخذ معه آلامنا وكل ما ناءت به أرواحنا وأكتافنا، ولم يبق منه غير أرواح أصابها الجفاف.
في الزمن الماضي، كانت أم كلثوم تغني لنخبة وعلية القوم، بحضور مشترك للزوج وزوجته، للحبيب وعشيقته، لم تكن قضية "التعليم المشترك" أو "الاختلاط" أولوية تعليمنا، ولم تكن قضية ارتداء الحجاب والنقاب ساحة صراع مشايخنا، كان الحضور النسائي كله بلا حجاب، فهل كانوا غير مسلمين؟ أم أن الزمن أوجد فينا من يريد أن يجرنا إلى جنّته بالسلاسل، مدعيا أنها بلا موسيقى؟
إن الجميل ليس الزمن الذي مضى ولن يعود، بل أوهام ذاك الزمن التي يغذّيها راهن بالغ القسوة والقيد، وعقليات تريد أن نعيش اليوم بأجندة عمرها تجاوز ألف عام.
دعونا لا نظلم الحاضر، ولنحاسبه بقدر ما نقدّم له، لا ما نجلده به يوميا، ففي الماضي كان هناك فقر وجوع وظلم ومرض، والآن هناك جهاز صغير "لابتوب" يحضر إليك العالم بين يديك.. فأيهما أجمل إذن؟.
المشكلة فينا، وفي منظومة الاخلاق التي اصابها العطب، حتى وصل الخراب الى معظم ما كان يستند اليه الانسان، ليجد فيه الحماية.
|