ما عاد بالإمكان تجاهل مسألة "الإتوس الإسلامي" أي مجموعة المعتقدات والمثُل وأنماط السلوك التي تكوّن روح الشعب، في المقاربات الفلسفية والسياسية والاجتماعية لطبيعة أزمة العالم العربي والإسلامي، في ضوء الانتفاضات العربية والحدث الداعشي. مع التسليم بالعلاقة السببية القائمة بين تلك الانتفاضات وسياسات الأنظمة الاستبدادية والاستغلالية العربية وإخفاقاتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ومع الإقرار بأخطاء الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها وخطاياها في أفغانستان والعراق التي ساهمت في بروز أصولية لا تمت إلى الدين ولا إلى الإنسانية بصلة، وبدور الصهيونية السياسية والخمينية في إقحام الشرق الأوسط عمومًا في صراعات دينية ومذهبية تغذي العصبية الدينية والتطرف الديني الإيديولوجي، فإن نقد الإتوس الإسلامي الذي يتحكم في البنية الذهنية نقدًا موضوعيًا يتجاوز المحرمات التقليدية، بات أمرًا ملحًا. ليس لأن الأصولية البربرية تستند في أعمالها إلى العناصر المكونة ذلك الإتوس فحسب، بل لأن تلك العناصر تقف سدًا في وجه الإصلاح المنشود أيضًا، وفي طليعته التحول الديموقراطي.
تمثل الداعشية في الواقع نموذجًا متطرفًا للتيارات الإسلاموية من إخوانية وسلفية وخمينية التي يدعي كل منها تمثيله الإسلام تمثيلاً أصيلاً لا ريب فيه، ويسعى لأسلمة المجتمع والدولة وفقًا لإيديولوجيته التي يجاهر بشموليتها ويُعنى بتصديرها. وتجتمع التيارات الإسلاموية أيضًا على تقسيم العالم بين دار الإسلام ودار الحرب - مع تفاوت مفاهيم هذا التقسيم بين تيار وآخر- وعلى رفض الديموقراطية، ولا سيما صيغتها الليبرالية، والتركيز على محورية الشريعة في الحكم والقضاء وتفاصيل الحياة المدنية والعائلية. وما سلوك الداعشية في الواقع إلا ادعاء بتحقيق هذه التوجهات كما يجب أن تحقق. فالداعشية تبغي أسلمة العالم كله بدءًا بـ"تنظيف" أراضي الخلافة من سائر الأديان الأخرى، بل ومن أثر الثقافات القديمة والحديثة التي تُعد وثنية، وإقامة حكم إلهي يعكس الحكم الإسلامي الأصيل، ليس فيه من مكان للديموقراطية والحداثة والقومية والحزبية بمعنى الكلمة المعاصر، ولا للتنوع القيمي والأخلاقي والثقافي. . يواجه الخطابُ الديني الرسمي والسياسي على حد سواء التوجهاتِ الإسلاموية والداعشية بالرفض وبالتذكير بأن الإسلام دين الاعتدال والتسامح والانفتاح، وقد حرص منذ نشأته على احتضان أتباع الأديان الأخرى وحمايتهم، وأظهر قدرته على التفاعل الإيجابي مع الثقافات الأخرى، وإدماج عناصر كثيرة منها في ثقافته نفسها. وإن كان ثمة حاجة إلى إصلاح في المجتمعات المسلمة، فهذا لا يمكن أن يكون استنساخًا لنموذج الغرب، بل يجب أن يكون محلي المنشأ وذا طابع إسلامي حقيقي، مع إمكان الاستفادة، بالطبع، من خبرات الغرب، وتبني عناصر من حداثته تتفق والثقافة الإسلامية.
ولكن إزاء هذه الملاحظات المحقة، تُثار أسئلة تحث على التسليم بوجود ثمة "إتوس إسلامي" معمم كان ولا يزال سدًا في وجه محاولات الإصلاح ومساعي دمقرطة المجتمعات المسلمة: كيف نفهم إخفاق محاولات الإصلاح المتكررة في النظم السياسية والاجتماعية والتربوية والمدنية والحقوقية منذ عهد الإمبراطورية العثمانية؟ وكيف نفسر إخفاقات إنتاج نظام حكم إسلامي معاصر قابل للحياة، وينسجم وقيم حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة؟ وكيف نفهم الصعوبات الكبيرة التي يلاقيها نشر الديموقراطية في البلدان العربية وسائر البلدان الإسلامية الأخرى بما فيها تركيا؟ هل يكفي التوقف على الأسباب الظرفية الداخلية والخارجية في تلك البلدان التي تختلف بعضها عن بعض في نواحي عديدة، في سياق البحث عن أجوبة؟
إن تطور العالم الإسلامي التاريخي الذي قد لا يتوصل الباحث إلى الإمساك بكل العوامل التي فعلت فعلها فيه، ترافق مع توجه لتثبيت مركزية المرجعية الإلهية أو النص الديني، في البحث عن المعرفة والحقيقة. وبكلام آخر، أصبح ذلك البحث مرتبطًا ارتباطًا وطيدًا بالتأمل في النص الديني والسنة النبوية وتفاسيرهما التي انحصرت هي أيضًا في مذاهب فقهية محددة؛ فدور العقل الاستنارة الإلهية تبعًا لمعالم تفسير مصادره. فالنور يأتي من علُ فحسب. ويعني هذا أن ليس من مكان للبحث من طريق طرح أسئلة استفهامية نقدية من دون وصاية خارجية وتحديدًا إلهية. لذا، ليس من تعددية فكرية فعلية قائمة على مبدأ حرية التفكير، وليس من بحث عن المعرفة والحقيقة انطلاقًا من صدمة الأفكار المتعارضة. وفي هذا السياق، يتكلم محمد أركون على إرساء منطق جدلي محاجج، واثق من نفسه، ممسك بالعلم واليقين، وقيم ثابتة وقواعد قضائية أرادها الله نفسه ("Raison", Dictionnaire du Coran, 2007, p.725).
لقد أغلق هذا النظام الفكري الباب كليًا على ما كان في أصل نهضة أوروبا أثناء عصر الأنوار، ألا وهو إمكانية الإنسان أن يفكر بنفسه، ويبحث عن الحقيقة بذاته، بصرف النظر عن أي مرجعية ميتافيزيقية، ومن دون أن تكون تلك المرجعية مقياس حريته، ومن دون أن ينحصر بحثه في مطابقة فكره مع تلك المرجعية. وخلاصة القول إن النظام الفكري الذي نتج من تطور العالم الإسلامي ألغى إمكانية النقاش الفعلي، إذ جعل من مرجعية النص الديني المنغلقة ضمن تفاسير معينة مقياس حرية التفكير والبحث عن الحقيقة. لقد بات الاعتراف المسبق بتلك المرجعية شرط الحرية الخاصة والتفكير الحر. فإذا أراد الإنسان أن يبني مجتمعه، وجب عليه أن يستمد أسس ذلك المجتمع وشكله وقوانينه من مرجعيته الدينية، وليس من طريق النقاش مع الآخرين. لقد غيب تطور الإسلام التاريخي دور "الأغورا" الحيوي (وهي تجربة المدينة الإغريقية)، حيث كل مواطن مدعو ليدلي بدلوه في النقاش بالتساوي مع باقي المواطنين، بغية أن تغلب الحجة الأقوى والحقيقة الأسطع، لتمهد، من ثم، لنقاش جديد في دينامية لا تعرف الاستقرار والاكتفاء والجمود.
لقد خلق موقف طاعة العقل المستنير الذي تفرضه المرجعية الإلهية سلطة لاهوتية-سياسية جامدة تحتكر الحقيقة وترفض كل عقل تساؤلي نقدي، بل لا تتردد بتكفير من يخرج عن صراطها المستقيم. لذا، يبقى الاعتدال والوسطية والانفتاح والتسامح التي ترفع رايتها المرجعيات الرسمية الدينية والسياسية، محصورة ضمن حدود تفسير النص المقدس التقليدي، ويبقى البحث عن الحقيقة ملزمًا بوجهة واحدة تؤدي إلى اعتناق اليقين الذي يحمله ذلك النص الذي يُقرأ ضمن معالم التفسير، من دون أي دور لحرية التفكير الفعلية.
لن يكون لأي تجديد أو إصلاح ديني منشود نتائج فعلية إذا لم يخرج عن الإتوس التقليدي المهيمن، فيخلق "أغورا" فعلية يتساوى فيها رجال الدين مع سواهم من المواطنين والمفكرين، ويشغل الخطاب الديني فيها بتواضع مكانة مماثلة لمكانة الخطب الأخرى، ويعهد بأمر حماية الأغورا تلك إلى سلطة الدولة الحيادية والضامنة وحدها حرية التعبير والعدالة للجميع.
أستاذ في جامعة القديس يوسف
|