لا أستطيع أن أنسى أنه في عام 1990 تاريخ انتقالي من القاهرة وكنت مديراً لـ «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» إلى عمان لأشغل موقتاً منصب أمين عام «منتدى الفكر العربي»، أنني طالعت عبارة ذات دلالة تشير إلى الانقلابات السياسية والاقتصادية والثقافية التي حدثت في العالم.
تقول العبارة التي صاغها أحد علماء السياسة الثقات «نحن نعيش في عالم يتسم بالشك مما يجعلنا عاجزين عن التنبؤ بمساره».
قال الرجل هذه العبارة بعد الانهيار المدوي للاتحاد السوفياتي، والذي قلب موازين النظام الدولي وحوّله على الفور من نظام ثنائي القطبية إلى نظام أحادي القطبية، تنفرد فيه الولايات المتحدة الأميركية باتخاذ القرار الدولي بحكم قوتها العسكرية الفائقة ومبادراتها التكنولوجية وإنجازاتها الاقتصادية الباهرة. وإذا أضفنا إلى ذلك بروز الإرهاصات الأولى للتغيرات العالمية مصاحبة في ذلك صعود تيارات العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية، وما أحدثته من آثار إيجابية وسلبية على السواء في محيط المجتمع العالمي، لأدركنا أن هذا الخبير السياسي المرموق كان محقاً في عبارته الحكيمة.
وقد أتيح لي عبر دراسات متعمقة وكتب متعددة أن أتابع ظاهرة العولمة في تجلياتها المتعددة. وقد صغت بهذا الصدد نظرية متكاملة تحاول وصف وتفسير الظواهر العالمية الجديدة أطلقت عليها «الثورة الكونية»، وقد فصّلت أبعادها في أحد كتبي الذي صدر في القاهرة عام 1995 في عنوان «الثورة الكونية والوعي التاريخي: حوار الحضارات في عالم متغير». وقد ذهبت إلى أن هذه الثورة متعددة الأبعاد، فهي ثورة سياسية تتمثل في الانتقال من الشمولية والسلطوية إلى الديموقراطية، وهي ثورة قيمية تبدو في الانتقال من القيم المادية إلى القيم ما بعد المادية، وهي أخيراً ثورة معرفية عبارة عن الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة.
واعتقدت وقتذاك أنني استطعت أن أضع يدي على مفاتيح ظاهرة التغير العالمي، خصوصاً بعد أن تعمقت في البحث ونشرت دراسات متعددة تفصل منطق هذا التغير.
غير أنني اليوم - خصوصاً بعد اندلاع ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن وما حدث من أحداث درامية في العراق وغيره من بلاد العرب - أدركت أن ما ظننته فتحاً علمياً وتفسيراً بيّناً لم يكن في الواقع سوى سراب خادع!
فقد ترتب على الثورة في مصر استيلاء جماعة «الإخوان المسلمين» الإرهابية على السلطة المطلقة عبر إجراءات انتخابية شكلية أصابها العوار الاجتماعي والثقافي، ما مثل انتكاسة كبرى لمسار التقدم.
أما ما حدث في ليبيا فقد أدى إلى سقوط الدولة الليبية بالكامل، وسيطرة الميليشيات العسكرية المتناحرة عليها، بعد أن ساهمت قوات حلف «الناتو» في إسقاط النظام الليبي الديكتاتوري.
واندلعت في سورية انتفاضة شعبية ضد النظام الشمولي سرعان ما تحولت – نتيجة تدخلات دولية وعربية شتى - إلى حرب أهلية يصعب على المراقب الموضوعي تحديد الأطراف الداخلة فيها، واتجاهات الميليشيات العسكرية الضالعة في المعارك، والتي انبعث منها تنظيم «داعش» الذي تمدد من سورية إلى العراق. والعراق ذاته - تحت وطأة الإقصاء الشيعي للسنّة - تحول إلى دولة بالغة الهشاشة سمحت لعصابات «داعش» الإرهابية أن تحتل أجزاء شاسعة من الدولة، وأن تسقط تكريت والموصل في براثنها بسهولة مثيرة للاستغراب.
عند هذا الحد قلنا أن هذه الظواهر المرضية التي أصابت البلاد العربية في مقتل وأهمها سقوط الدولة الليبية، وتمزق نسيج المجتمع العراقي، والحرب الأهلية الضارية في سورية، هي نهاية الفوصى العارمة التي لحقت بالبلاد العربية، وكان الحديث بين السياسيين والخبراء كيف يمكن باتباع منهج عقلاني حصيف، وسياسة متوازنة مواجهة كل هذه التصدعات الخطيرة التي لحقت بالجسد العربي المثخن بالجراح.
وفجأة برزت على المسرح جحافل الحوثيين في اليمن الذين تحدوا الدولة واحتلوا بعض الأقاليم. غير أن المنظر العام أصبح عبثياً بعد أن احتل الحوثيون العاصمة صنعاء وحاصروا رئيس الجمهورية، ونهبوا بيوت زعماء القبائل النافذة، وعاثوا في الأرض فساداً، وتحالف معهم الرئيس السابق (علي عبدالله صالح) والذي دفع بالقوات المسلحة اليمينية إلى أن تتحالف معهم، وأن تفتح لهم بكرم شديد كل مخازن السلاح.
هكذا، تبين أن الحوثيين بسيطرتهم على غالبية أقاليم اليمن يمكن أن يمثلوا تهديداً خطيراً للسعودية من جانب، وللملاحة الدولية لو سيطروا على باب المندب من ناحية أخرى.
من هنا، اتخذت السعودية قرارها الاستراتيجي الخطير بقيادة تحالف عسكري عربي لشن حملة عسكرية على الحوثيين لوقف تقدمهم التخريبي، والذي يمثل تهديداً خطيراً للأمن القومي العربي. وانضمت مصر إلى هذا التحالف الذي يشكل القوة الرئيسية فيما أطلق عليه «عاصفة الحزم».
هكذا اكتملت حلقات الفوضى العارمة التي غطت بموجاتها الجارفة كل أقطار العالم العربي، إضافة إلى الإرهاب الذي وجه سهامه إلى كل الدول العربية بلا استثناء.
وهكذا وجدنا أنفسنا – ليس كمواطنين عاديين - ولكن كخبراء استراتيجيين وباحثين سياسيين في حيرة بالغة. وكان السؤال المحوري الذي طرحناه في «المركز العربي للبحوث» بالقاهرة في الندوة الأسبوعية لمجلس الخبراء: كيف نقرأ الخرائط المعقدة للشرق الأوسط في الوقت الراهن؟ واكتشفنا أن قراءتنا في الواقع متعثرة، وذلك لاختلاط الأوراق السياسية والعرقية والمذهبية من ناحية، ولتداخل الأطراف العربية مع الأطراف الإقليمية الأخرى مثل إيران وتركيا وإسرائيل، إضافة إلى الأطراف الدولية وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية.
واتخذنا قراراً علمياً بالبدء فوراً في مشروع بحثي عاجل لرسم الخرائط السياسية والعرقية والمذهبية في الشرق الأوسط، حتى نعرف على وجه الدقة من يحارب من في كل بلد عربي، وما هي العوامل الكامنة وراء هذه الصراعات الدموية. وتبين لنا أننا في حاجة إلى رسم إطار نظري يحدد الموضوعات الجديرة بالبحث.
ووجدنا أنه لا بد من أن نبدأ بمحور الدولة والمجتمع والفرد. وذلك حتى نحدد ابتداء طبيعة كل دولة عربية، والسمات الرئيسية لمجتمعها، ونوعية المواطنين الذين يعيشون على أرضها.
على أن ذلك لا يمكن أن يتم من دون أن نرسم خريطة للأعراق السائدة في الوطن العربي، فلدينا أولا العرب وهم الغالبية، غير أن لدينا أقليات متعددة مثل الأكراد والعلويين والتركمان والشركس والبربر والموارنة.
غير أن ذلك لا يكفي في رسم ملامح الصورة، فلدينا مذاهب دينية متصارعة مثل السنّة والشيعة، إضافة إلى مذاهب أخرى.
ولو حاولنا أن نرسم صورة دقيقة للحرب الأهلية الدائرة في سورية الآن مثلاً لوجدنا تفاعلات معقدة بين الملل والنحل والأعراق. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك اختلاط شديد في مواقف الأطراف العربية، منها من هو ضد النظام السوري، وبعضها معه، وعلى النسق نفسه نجد أن الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي تقف ضد النظام السوري، في حين أن روسيا تقف في صف هذا النظام، ولا ننسى في هذا المقام الدور الإيراني الخطير الذي جعل البعض يقول أنها تسيطر على أربع دول عربية هي العراق وسورية ولبنان واليمن.
من هنا، يمكن القول أن تعبيرنا كان دقيقاً حين تحدثنا عن القراءة المتعثرة في هذه الخرائط المعقدة. من ثم، علينا بذل مزيد من الجهد العلمي حتى نخرج ببحث متكامل يرسم الصورة بكل ملامحها، سعياً وراء الفهم أولاً، والذي هو بداية التفكير الاستراتيجي في المواجهة من منطلق عروبي يقوم على أساس أن الأمن القومي العربي لا يتجزأ.
* كاتب مصري |