يبدو أن نقد القضية الفلسطينية بات مقدمة كل نقد للوضع العربي الراهن.
منذ بداية الثورات العربية، امتنعت القوى المؤيدة لها والسائرة فيها عن تقديم أي مقاربة للقضية الفلسطينية تأخذ في الاعتبار تغير الأحوال وتقرأ التاريخ قراءة جديدة. ولم تظهر القضية في إطار الثورات سوى كموضوع للمزايدة اللفظية بين أنصار الأنظمة والاستبداد وبين مؤيدي الثورات.
وفيما وقفت أكثرية القوى المصنفة تقليدياً في خانة «المقاومة» إلى جانب أنظمة الاستبداد واعتبرت الثورات جزءاً من مخطط أميركي - إسرائيلي - تركي الخ... ضد العالم العربي واستقراره ومقاومته مقدّمين «حزب الله» اللبناني وعدد من الفصائل الفلسطينية المنخرطة في القتال ضد الثورة السورية، أدلة على صواب الاعتراض على الثورات، هلل آخرون لإعلان حركة «حماس» تأييدها للثورات العربية وانسحابها من سورية.
في واقع الأمر، لا يمكن اتخاذ «حزب الله» و»حماس» معيارين على موقف الثورات العربية من الصراع مع إسرائيل. فكل منهما يمثل مساراً يفتقر إلى التصور المستقبلي لحل الصراع العربي – الإسرائيلي، ناهيك عن انخراطهما في سياسة الأحلاف والمحاور الإقليمية بما يحرم مواقفهما أي قيمة في التأسيس لنظرة جديدة إلى الصراع مع إسرائيل.
فالاستمرار في اعتبار القضية الفلسطينية باحة للمزادات العلنية بعد كل ما حصل في الأعوام الأربعة الماضية، علامة بالغة السوء، ناهيك عن أن تصدر «حزب الله» و»حماس» للساحة السياسية واعتبارهما نموذجين في مقارعة إسرائيل هو بمثابة الإعلان عن إفلاس الخيال السياسي العربي وعجزه عن اجتراح مقاربات تخرج الصراع من الطريق المسدود الذي بلغه.
ويقع مؤيدو الثورات العربية في إرجائهم التفكير في المسألة في فخ الأنظمة التي بنت شرعيتها على أكذوبة الحرب على إسرائيل واستعادة الأراضي المحتلة. ويبدو أنصار الثورات خائفين من الاتهامات التي اعتاد المعسكر المقابل أن يكيلها لكل من يخالفه، اتهامات بالخيانة والعمالة والتآمر على القضية المركزية المقدسة.
هذا الخوف ينبغي أن ينتهي وهذه المقاربة التقليدية من جانب من يعتبر ذاته معنياً بالمستقبل الذي فتحت الثورات العربية أبوابه يجب أن تُسحب. ليس بسبب التغير الجذري في المعطيات السياسية العربية والدولية في الأعوام الماضية، والنهاية البائسة التي انتهت إليها العملية السياسية الفلسطينية – الإسرائيلية، وليس لأن القضية الفلسطينية اُشبعت واُنهكت استغلالاً من الأنظمة العربية كافة، وبيعت واشتريت في أسواق العالم كله على حساب مأساة الشعب الفلسطيني، فحسب، بل لأن التصور العربي للقضية الذي بُنيت على أساسه أيديولوجيات وأحزاب وفصائل مسلحة وأقيمت أنظمة وشُنت حروب أهلية وأريقت دماء غزيرة، يقوم على فهم يبتعد كل يوم عن حقائق العالم، إضافة إلى أنه تأسس على إنكار كامل للواقع كما كان عشية النكبة.
لقد ساد أسلوبان عربيان في التعامل مع القضية الفلسطينية. الاول هو استغلالها وتوظيفها في الصراعات الداخلية للانظمة الساعية إلى البقاء في السلطة وفي النزاعات العربية – العربية، والعمل على تطويع الفلسطينيين لأداء هذه المهمة. والثاني هو اعتبارها قضية غير قابلة للحل وتقديم بعض المساعدات المادية والسياسية لممثلي الشعب الفلسطيني. يتشارك الأسلوبان في قناعة راسخة بعدم القدرة على مواجهة إسرائيل، ليس عسكرياً فحسب - وهذا على رغم التهويل بصعوبته واستحالته قد يكون أسهل معوقات الصراع مع إسرائيل - بل أيضاً سياسياً وفي محاولة نزع شرعيتها الدولية وحقها في الوجود الذي فرضته الأمم المتحدة.
تسلسل الأخطاء الاستراتيجية في بناء السياسات العربية حيال إسرائيل، جعل كل الخطاب الرسمي العربي غير مقبول دولياً. حتى الاختراق الذي قام به الرئيس المصري أنور السادات، بتكريس نوع من الفصل بين إسرائيل كدولة وإسرائيل كقوة احتلال، لم يرق إلى مستوى القناعة العربية السائدة على مستوى النخب السياسية.
على العرب ألا يخجلوا من ثوراتهم وألا يبخسوها قيمتها حتى لو أفضت إلى ما يشبه الانتكاسة وعودة «النظام القديم». ذلك أنها تندرج في مسار تاريخي طويل، المرور ببعضه إجباري على طريق فرز القوى التي تشد المجتمعات العربية إلى التخلف والقيود والارتهان. وعليهم ألا يصدقوا الأصوات التي تبرع في استغلال الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وتمنحه شرفاً وقداسة فيما تحيل الثورات إلى الدنس والعمالة. ذلك أن كثافة الاستغلال والتوظيف الممارسيْن من أجهزة وجهات خارجية ومشبوهة بات يسم الانخراط في «المقاومة» المدارة من المخابرات بسمات تدعو إلى الريبة.
وينطبق الأمر ذاته على الوضع الداخلي في بلدان الثورات العربية، لكن هذا لا ينبغي أن يقلل من أهمية الثورات كخطوات ضرورية على طريق قيام المجتمعات والدول العربية، وهذه هي الوحيدة القادرة على صوغ مصالحها وأساليب تحقيق هذه المصالح والدفاع عنها بما في ذلك التوصل إلى التسوية التاريخية العادلة للقضية الفلسطينية.
ويعرف المسؤولون العرب، «الممانعون» و«المعتدلون» سواء بسواء أن شرعية إسرائيل في نظر المجتمع الدولي لا تقل عن شرعية أي دولة عربية. منظمة التحرير الفلسطينية أول من أدرك هذه الحقائق وبنت عليها استراتيجيتها منذ 1974 على أقرب تعديل.
عليه يبدو رفع القداسة عن العمل الفدائي الذي ينتمي إلى مرحلة تاريخية ولت وانتهت، والتخلي عن الحنين إلى ذلك الزمن، ضرورة لنزع السحر عن كل القضية الفلسطينية أولاً، وإلحاقها بسيرورة عقلانية لتاريخ هذه المنطقة تعوقه وتحول دون صوغه سرديات تقوم على الكذب على الذات أولاً وعلى العالم ثانياً. هذا الكذب هو المرادف لأسطرة التاريخ ومنع عقلنته كعنصرين يساهمان في منع تغيير الحاضر. |