في مؤتمر دولي نظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبو ظبي حول تحولات المصالح والتحالفات الإقليمية، دار نقاش حول مدى التداخل بين ديناميات التغيير في عدد من الدول العربية منذ 2011 من جهة، وتصاعد التنافس والمواجهة الإقليمية من جهة أخرى. وتبين أن بين الظاهرتين ترابطاً عضوياً، وأن اللااستقرار الوطني يولد فرص التنافس الإقليمي وأخطاره، وأن اللااستقرار الإقليمي يؤجج ويزعزع الاستقرار الوطني. وأكد المشاركون ضرورة البناء على تحالف «عاصفة الحزم» باتجاه نظام عربي – إقليمي أشد تماسكاً وأكثر تكاملاً يولي التعاون التنموي كما التنسيق الاستراتيجي الأهمية المطلوبة.
اندلعت انتفاضات شعبية في عدد من الدول العربية في شتاء عام 2011 لأسباب معظمها داخلي: نمو سكاني سريع وكتلة شبابية ضخمة، نمو اقتصادي بطيء مع بطالة عالية وسوء توزيع الثروة، ضغط على الموارد المائية والزراعية، ونمو في التواصل التقني والوعي الشعبي، وجمود في المؤسسات السياسية وتراجع في شرعية الأنظمة. وأتت شرارة تونس لتطلق إرادة واسعة في التغيير.
إلا أن ما بدأ بإرادة في التغيير أو الإصلاح، ما لبث أن أدى بعد تفاعلات عدة إلى انهيار أكثر من دولة ومجتمع سياسي عربي، وأزمة تاريخية حول طبيعة النظام الإقليمي وشرعية الحدود وتعريف الهويات الوطنية ودور الدين ومستقبل المنطقة العربية ككل. كما أدى إلى تجاذبات وتناقضات إقليمية واسعة لم تشهدها المنطقة منذ عقود طويلة.
من الواضح أن انهيار مؤسسات الدولة في بلدان عدة، خلق فراغات سياسية وفتح المجال للتدخل والصراع الإقليمي. ويحصل التدخل والتصارع اليوم في بلدان – مثل سورية وليبيا واليمن - سبق أن انهارت أو تقهقرت فيها الدولة لأسباب معظمها داخلي. وبناء عليه، لو تم علاج الدوافع الاقتصادية والسياسية التي أدت إلى الانفجارات الاجتماعية وانهيار الدولة في هذه البلدان لما كانت هناك فرص لهذا المستوى من التدخل والصراع الإقليمي. لذا، في الأمد الطويل، سيكون الاهتمام بالتنمية البشرية ومكافحة البطالة والفقر والأمية، وتعزيز الموارد المائية والزراعية وتطوير المشاركة والتنمية السياسية، عناصر أساسية للاستقرار ليس الوطني فحسب ولكن الإقليمي أيضاً.
في المقابل، لو كان هناك نظام إقليمي مستقر وخال من التناقضات العميقة، لساعد بلدان المنطقة على التعامل مع تحديات وخضّات داخلية وعلى تخطيها من دون انهيار الدولة والانزلاق إلى الحرب الأهلية، أي أن التنمية الاقتصادية والسياسية من جهة والاستقرار الإقليمي من جهة أخرى هما في علاقة إيجابية.
لا شك في أن الدول الإقليمية اليوم تلعب أدواراً بارزة في الشرق الأوسط، إذا قارنّا بعقود سابقة، وهذا ربما لسببين أساسيين. أوّلاً تراجع في أدوار القوى العالمية، فالولايات المتحدة في تراجع بعد إنهاكها العسكري والمالي في عهد جورج دبليو بوش، ومع اقترابها من الاستقلال الذاتي في مجال الطاقة، والنفوذ الروسي محدود جداً ولا يقارن بالنفوذ السوفياتي السابق، والصين قوة صاعدة، لكنها لم تقرر بعد أن تلعب دور القوة الاستراتيجية العالمية. والسبب الثاني تصاعد في إمكانات القوى الإقليمية اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً وعسكرياً. لكن مواقف وسياسات دول المنطقة تجاه مسارات التغيير في الدول العربية تنوعت وتناقضت.
رحبت تركيا بطلائع الربيع العربي معتقدة أن التوجه نحو المنافسة الانتخابية وفوز أحزاب «الإخوان المسلمين»، سيثبتان دورها القيادي في الشرق الأوسط الجديد، وقام أردوغان فعلاً بجولة شبه انتصارية في كانون الأول (ديسمبر) 2011. لكن الآمال التركية لم تتحقق، فالصعود «الإخواني» تعثر وتراجع والنموذج التركي لم يُتبع ولم تستطع تركيا أن تستفيد في نهاية المطاف من قوتها الناعمة ولا القاسية، وأصبحت معزولة ومن دون نفوذ واسع.
إيران رحبت هي الأخرى بالثورات الشعبية معتقدة أنها استعادة للثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وستنحو نحوها، إلا أن الانتفاضات كانت أقرب إلى الانتفاضة الإيرانية عام 2009 منها إلى 1979، والتيارات الإسلامية التي صعدت كانت ذات هوية سنّية مناوئة لإيران لا مؤيدة لها. والتيارات الوطنية التي قامت في وجه التيار «الإخواني» كانت ذات توجه علماني وعروبي ومناوئة للنفوذ الإيراني. وعندما وصلت أمواج الانتفاضات العربية إلى سورية، وقفت إيران إلى جانب النظام في حربه ضد شعبه.
قبل الربيع العربي كان محمود أحمدي نجاد والسيد حسن نصرالله يتمتعان بأعلى نسبة تأييد في العالم العربي، أما الآن فيُنظر إلى إيران و «حزب الله» عند الأكثرية العربية كقوتين طائفيتين مذهبيتين ساهمتا في قتل مئات الآلاف وتشريد الملايين من السوريين.
وعندما كانت الولايات المتحدة تستعد للانسحاب من العراق عام 2011، كانت إيران ترث إمبراطورية تضم كل العراق وكل سورية وتسيطر على لبنان، ولكن خلال أقل من عامين من الإدارة الإيرانية انهارت سورية وانقسم العراق ودخل البلدان في حروب أهلية، وانشغلت إيران في إنفاق المال والرجال للدفاع عما تبقى لها فيهما ومواجهة التهديد الجديد من تنظيم «داعش». ولكن، عوّضت إيران عن تعثرها في المشرق باختراق كبير عبر الحوثيين في اليمن.
اختلفت دول مجلس التعاون في تعاطيها مع الانتفاضات العربية. رحبت قطر، عبر قناة «الجزيرة»، بحركات التغيير، كما رحبت وأيدت صعود «الإخوان». أما دول أخرى في المجلس فعبرت عن قلقها من تأثير التغيير السريع في الاستقرار وتأثير صعود «الإخوان» في انتشار خطر التطرف. وظهرت هذه التناقضات بوضوح في أحداث مصر. أما في سورية فكانت دول مجلس التعاون أكثر توافقاً، على رغم بعض التنوع في دعم فئات المعارضة.
والملفت أن القوة الإقليمية الرابعة، إسرائيل، بقيت إجمالاً على الحياد في هذه الصراعات. وعبرت عن قلقها من صعود الإسلاميين ومن تزعزع بنى الدولة في سورية أو مصر، لكنها لم تذهب إلى حد التدخل في أي من هذه الصراعات.
في المرحلة الأولى بعد الانتفاضات، أي بين 2011 و2013، صعد ثلاثي إقليمي يضم تركيا وقطر ومصر «الإخوان»، وطمح إلى أن يتحكم بالقيادة الإقليمية للمرحلة. ولكن، في المرحلة الثانية – بين 2013 و2015 - بعد الثورة الثانية والتغيير السياسي في مصر، انهار هذا الثلاثي وصعد مكانه ثلاثي آخر بين السعودية والإمارات ومصر السيسي. وفي الآونة الأخيرة، توسع وتعمق هذا الائتلاف عبر تحالف «عاصفة الحزم» ليضم دولاً عربية أخرى مثل المغرب والأردن والسودان، ودولاً إقليمية نافذة مثل باكستان وتركيا.
في هذه المرحلة الثانية قطعت إيران الأمل من لعب دور القيادة في العالم الإسلامي أو العربي ككل واختارت الاعتماد على التحالفات المذهبية، في العراق وسورية ولبنان، وأخيراً في اليمن، وربما غداً في البحرين أو في دول أخرى إذا تمكنت.
تشكل إيران خطراً على استقرار المنطقة ليس لأنها قوية، أو لأنها تمتلك أو لا تمتلك سلاحاً نووياً، ولكن لأنها لا تقبل بأبسط شروط العلاقات الدولية، من احترام سيادة الدول ووحدة شعوبها. فهي تسلّح ميليشيات ضد الدولة عندما تشاء، وتسلّح طائفة ضد أخرى عندما تشاء، ولا تتردد في مؤازرة حرب إبادة يشنها نظام ضد شعبه إذا ناسبها ذلك.
سيبقى التهديد من إيران عالياً لو توصلت إلى اتفاق نووي مع المجتمع الدولي أو لم تتوصل. يلعب الرئيس روحاني والوزير ظريف دور المفاوض الناعم مع الغرب لرفع العقوبات الدولية عن إيران، ولكن لا يلعب روحاني أو ظريف أي دور يذكر في رسم سياسة إيرن الإقليمية. إن رفع العقوبات إذا حصل سيزيد من موارد «الحرس الثوري» ويمكّنه من زيادة الإنفاق في سورية والعراق ولبنان واليمن. وإذا حصل اتفاق فقد يدفع ذلك المرشد الإيراني خامنئي إلى تشدد إضافي لكي لا يحاول روحاني وتياره أن يستفيدوا سياسياً في الداخل من الاتفاق للانفتاح على الغرب وتطبيع العلاقات مع دول الجوار. وإذا لم يحصل اتفاق سيتحمل روحاني والوسطيون عبء الخسارة ويؤكد اليمين المتشدد ضرورة المواجهة دولياً وإقليمياً.
إن الأمل الوحيد من إيران على الأمد الطويل هو أن تترجم إرادة الأكثرية التي انتفضت ضد تزوير الانتخابات عام 2009، وانتخبت روحاني رئيساً عام 2013 والتي تريد حياة عادية وليس حرباً دائمة، وتريد علاقات طبيعية مع العالم والجوار، وتريد مجتمعاً مدنياً ودولة وطنية، لا ثورة إسلامية مذهبية مفتوحة. ولكن هذا عمل أجيال، لا نتيجة اتفاقات نووية.
في هذه الأثناء يشكل التحالف العربي الإقليمي الجديد تحت شعار «عاصفة الحزم» منعطفاً تاريخياً لأنه، على خلاف ائتلافات سابقة، بقيادة إقليمية عربية لا دولية أو غربية. وقد يوفر الائتلاف الجديد فرصة لبناء نظام إقليمي أكثر استقراراً، خصوصاً إذا ذلل الخلافات وعزز مجالات التوافق بين عدد كبير من دول المنطقة، وعزز مجالات التعاون الاقتصادي والتنموي إلى جانب السياسي والأمني في ما بينها، ووازن التمدد الإيراني وواجهه، ودفع بقيادات طهران إلى إعادة النظر في سياسة التدخل.
ولكن، أمام التحالف تحديات جسيمة أولها إيقاف الهجمة الحوثية في اليمن وإعادة البلاد إلى المسار السياسي. ولكن رغم تركيز التحالف على اليمن إلا أن التعاون العربي - التركي ضروري أيضاً لمواجهة الأخطار في سورية، وذلك عبر دعم المعارضة الوطنية ومواجهة تنظيم «داعش» ومواجهة النظام وإرغامه على التفاوض الجدي في التغيير السياسي. وقد يتطلب هذا فرض منطقة حظر جوي وتسليحاً وتمويلاً جدياً للمعارضة وإدخال قوات برية.
* كاتب لبناني ونائب رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن. |